الأحد، 30 أغسطس 2015

في مدرسة طبيب القيم: باتريك وولتينغ

ترجمة : الحسن علاج

Nietzsche. Mateo Dineen
لماذا نهتم بفكر نيتشه؟ إنه من قام بالدفع بعيداً بالحاجة إلى الجذرية التي يجسدها التفكير الفلسفي. وهو من شكك، ليس في هذا المذهب أو ذاك، بل في الممارسة الفلسفية في عمومها. فالفلاسفة بالنسبة إليه لايفعلون ما يقولون. وبالتأكيد، فهم يزعمون استبعاد الرأي والاعتقاد، بلا رحمة كي لايقبلوا إلا بما هو شرعي ومبرهن عليه بطريقة موضوعية. لكن، ألم تنس الفلسفة دفعة واحدة في تبرير مواقفها للبداية؟ الم تشيد على أساس إجماع سري، سلسلة من الاقتناعات ما تمت مساءلتها قط، عاملة آنئذ على مناقضة مثالها؟
هو ذا الامتياز الذي منح على الفور للحقيقة. «لنفترض أننا نتوخى الحقيقة: فلماذا لا نتوخى بالأحرى اللاحقيقة؟ ثم عدم اليقين؟ وحتى الجهل؟» يتساءل نيتشه في كتاب في ما وراء الخير والشر (1886). سيعمل والحالة هذه، على مطاردة أحكام الفلاسفة المسبقة التي يدين نزاهتها الفكرية. ثم إعادة تعريف المشروع الفلسفي بهدف جعله في تصالح مع طموحه. هكذا يعلن العمل النيتشوي عن نفسه؛ مثلما يبرهن أنه، وراء كل فكر، توجد سراً في العمل غرائز، تلك السيرورات اللاشعورية هي التي تبنين الجسد وإليها تعود فكرة إرادة القوة. تعبر الغرائز عن الاختيارات الأصلية للأحياء، الجاذبية أو التنافر اللذان لايقهران واللذان يبنينان طريقته في العيش. وهو مايسميه نيتشه بالـ"قيم"، فمثلاً أفضلية الحقيقي، التي تلائم الرعب الذي يتم الإحساس به بخصوص الخديعة. كذلك الإيمان بالخير في ذاته، الغيرية، اللامبالاة، الشفقة... في كل مرة تعمل القيم على تحديد زاوية نوعية والتي من خلالها يدرك الواقع ويعاش: كل فكر هو تأويل: اعتقادنا في حقائق موضوعية، احترام مثال المعرفة اللامبالية، الاعتقاد الذي يوجد تفكيراً خالصاً، محايداً، مؤثراً بإخلاص في طبيعة العالم نفسه، هو منظور مماثل ـمن بين العديد من المنظورات الأخرى الممكنة، لم تتقاسمه الحضارات برمتها. وكون أنه ينتصر في حضارتنا، سليلة الأفلاطونية، فإنه يعمل من الآن فصاعداً على إخفاء خاصيته المتفردة.

نزاهة لا عيب فيها
كان الفلاسفة مصابين بالعمى بشكل مأساوي، لأنهم، بالنسبة لـ نيتشه، كانوا سجناء اختيارات ثقافية عملوا على إطالتها في غفلة منهم؛ فقد اعتقدوا التوصل إلى معرفة مطلقة، خالية من كل تكييف، ونسوا أن كل فكر يرتكز على اختيارات لايدركها الوعي.
إذا كانت الفلسفة تبتغي لنفسها أن تكون سؤالاً جذرياً، لنزاهة لاعيب فيها، ستكون تحليلاً للقيم، وهو ما يسميه نيتشه بالجنيالوجيا، الذي ينبغي عليه بناء قضيته الأساسية، وليس البحث عن الحقيقة، التي ليست سوى قيمة من بين قيم أخرى. إن مثل هذا البحث حول مختلف أنماط الامتيازات التي تنظم مجموع الحياة الإنسانية تستوجب والحالة هذه، فهماً جديداً للفلسفة، وهو الفهم الذي يقدمه نيتشه على شكل عقل حر: وسيشكل الانعتاق فضيلته الأساسية، وسيتمظهر هذا الانعتاق عبر قدرته على الانفصال عن القيم السائدة بهدف مساءلتها. ولكن يوجد ماهو أسوأ بالنسبة لـ نيتشه من اكتشاف سطحية الفلاسفة: هو ما تحمله قيمنا الأوروبية من خطر. تجعل منا الحقبة المعاصرة شهوداً على زوال المعالم المؤسسة التي قادتنا منذ ما يزيد عن ألفي سنة ثم على انبثاق العدمية ـ وهو الحدث الذي تشير إليه صرخة مجنون كتاب العلم المرح (1882): «مات الإله! ظل الإله ميتًا!» إن شك التناقض بين الواقع وتوقيراتنا الأساسية (الحقيقة، الكينونة، الخير، إنكار الذات، الشفقة)، يقذف بفقد الثقة على هذه القيم الآنف ذكرها. إن انهيار المعالم يحدث تشاؤماً معمماً ونفوراً من الوجود. يعرض هذا التطور التراجيدي مستقبل الإنسان للخطر فهو الذي يسوغ تدخل الفيلسوف.

وبالفعل فإن القيم هي تنظيمات تطبيقية، وليست أفكاراً عقلية خالصة: تكون شروط حياتنا، تمارس تأثيراً عميقاً على تطورنا. وعليه، فإن الفيلسوف لطالما تم الخلط بينه وبين الطبيب، «طبيب الثقافة»، أعني [طبيب] تنظيم الوجود الإنساني في كل أبعاده. هكذا يرد نيتشه الإنسان إلى قلب التفكير الفلسفي: على هذا الأخير أن ينشغل بـ « ملاحظة نبتة "الإنسان" إلى حدود الساعة أين ومتى نبتت ونمت بقوة كبيرة»( في ما وراء الخير والشر). ينجم عن طموح «السمو بالإنسان» الإنسان الأعلى، معبراً عن شكل صحة خارقة.

التعصب للحقيقة  
يعتبر الوضع الحالي نقدياً: «كل القيم التي بها توجز الإنسانية في الوقت الراهن أسمى أمنياتها، هي قيم انحطاط»، يؤكد نيتشه في كتاب ضد المسيح (1888). تنقاد الثقافة الأوروبية التي تهيمن عليها الأفلاطونية مناوبة مع المسيحية، إلى القيم الأخلاقية التي تدين ما هو محسوس، الجسد على وجه الخصوص، والتي تطرح عالماً خيالياً آخر كموضوع للتوقير: عالم الكينونة، الفكر باعتباره أزلياً، مطابقاً، مثل الـ«عالم الحقيقي»، كما يشير إلى ذلك كتاب أفول الأصنام (فصل بعنوان «كيف غدا الـ"عالم الحقيقي" خرافة») . تتضح الغرائز المدانة من قبل تلك الأخلاق أنها ليست دائمة فقط في العمل إلى وجودها في الـ«فضائل» التي يعظمها هذا الأخير [العمل]، ولكن بصفة خاصة فهي تعتبر ضرورية لتطور الحياة وازدهارها:«ألايزال الإنسان الضارب في الضرر أكثر نفعًا، ضمن منظور المحافظة على النوع؛ لأنه يصون لديه، أو، بعمله، لدى آخرين، غرائز جنسية لولاها لأصاب الإنسانية ما أصابها من الضعف أو التعفن منذ أمد بعيد.» (العلم المرح ). ألا يصير الـ«خير» والـ«شر» أكثر ترابطاً كما قد يعتقد؟ إذا كان «كل ما في الإنسان يتعلق بالجارحة والحية يتم استخدامه بالتساوي للرقي بالنوع "البشري مثل نقيضه» (في ما وراء الخير والشر)، ينبغي على الفلسفة آنذاك مساءلة صحة انشقاقاتها: التفكير «في ما وراء الخير والشر». فما الذي يمكن أن تعنيه مثل هذه الأخلاق التي، تخلط بين المحسوس والشر، تأمر الأحياء باتخاذ إنكار الوجود العضوي كشرط للحياة؟ «لا» موجهة إلى الحياة بالحياة ذاتها، أو عبر شكل من أشكالها، يتساءل نيتشه؛ ومع ذلك ألا يشير إلى ذلك سراً تعصب الحقيقة التي تقطن ثقافتنا: «إذا كان صحيحاً أننا نعيش بفضل الخطإ، فكيف يمكن أن تكون "إرادة الحقيقة" في هذه الحالة؟ ألا ينبغي عليها أن تصير "إرادة للموت"؟ (شذرات بعد وفاة المؤلف 1885). يقود تعديل البحث الفلسفي آنئذ، إلى إظهار أن القيم التي عشناها هي قيم موت، تتسبب للإنسانية الأوروبية في موت بطئ.

فنان الصحة
يفسر هذا التشخيص مشروع القيم، الذي يجب على الفيلسوف الطبيب، «الإنسان ذو مسؤولية واسعة النطاق، المالك لوعي منشغل بتطور الإنسان في جملته» ( في ما وراء الخير والشر )، تنفيذه. يعتقد نيتشه أنه ينبغي العمل على الأفضليات سيئة التنظيم، إنكارية، مرضية، توجد في مصدر العدمية، استئصال المرض والصراع من أجل إحداث «قوة وإشراق أسمى، ممكنين في ذاتهم ، من نوع إنساني» ( جنيالوجيا الأخلاق، 1887، من المقدمة).
ليست القيم صحيحة ولاخاطئة. وبالمقابل فهي تعتبر خيرة أو مؤذية. من أجل مقاومة هذه الأخيرة، على الفيلسوف أن يصير مبدعاً: «الفلاسفة الحقيقيون هم أشخاص يأمرون ويشرعون. [...] فهم يمدون يد ا مبدعة بهدف التحكم في المستقبل كل ما كان ويكون لصالحهم، هذا الفعل، وسيلة، أداة، مطرقة.» (في ما وراء الخير والشر). وبوصفه فنان الصحة، سينذر المشرع نفسه في فرض شروط حياة تؤيد الواقع بدلاً من الهروب منه، وبقولها نعم للحياة، عاملة على تفضيل تقويتها: ربما إلى حدّ إرادة العودة إلى الحياة بطريقة مماثلة. من خلال عود أبدي.


المصدر: عن مجلة "لوبوان" الفرنسية عدد ممتاز تحت عنوان: نيتشه يونيوـ يوليوز 2013 عدد 14



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق