ترجمة: أمير زكي
»حلمتُ أن أكون بلانشو«.
Michel Foucault by Gerard Fromanger |
سيقترح أحد القراء المتشكّكين أن مجهود
فوكو للهرب من الهوية عن طريق الكتابة هو مشروع مستحيل، طالما أنه باتخاذه مهنة
الكتابة بالتحديد وصل إلى هوية مميزة ومحدّدة تماماً: متعلقة بكونه مؤلِّفاً. ألم يكن
ميشيل فوكو مؤلِّفاً شهيراً ومهماً ومازال كذلك في الحقيقة؟ أليست هذه هويته؟
إجابة فوكو على هذا الاعتراض
ستكون عنوان واحد من مقالاته المعروفة: "ما المؤلِّف؟". هل كونك مؤلِّفاً
يعني أن تملك هوية (طبيعة محدّدة، أن تكون شخصاً أو شخصيّة)، مثلما أن تكون بطلاً أو
كاذباً أو عاشقاً على سبيل المثال؟ هل الكتابة تجعلني نوعاً معيناً من الشخصيات؟
دعونا نبدأ بالتعريف الشائع للمؤلِّف:
هو الشخص الذي يكتب الكتب. أو لنكون أكثر دقّة، لأن المؤلِّف يمكن أن يكتب فقط القصص
أو المقالات التي لا يتم جمعها أبداً في كتاب، دعونا نقول إن المؤلِّف هو شخص يكتب
نصاً. ولكننا نكتشف على الفور أن هذا ليس دقيقاً تماماً أيضاً. النص هو أي شيء مكتوب
على إطلاقه، هذا يتضمّن قوائم التسوّق، والملاحظات التي تكتب في الفصول الدراسية، والرسائل
الإلكترونية المكتوبة لشركة التليفونات التي تستفسر عن الفواتير. أن تكتب مثل هذه الأشياء،
التي نكتبها جميعاً، لا يجعل الإنسان مؤلِّفاً. وكما يشير فوكو، فحتى عندما
نسعى لجمع "كل شيء" لمؤلف عظيم كـ نيتشه على سبيل المثال، فنحن لا
نُضَمِّن مثل هذه النصوص. أنواع معينة فقط من النصوص تعتبر "عملاً" خاصاً
للمؤلِّف.
تعريفنا يحتوي على ضعف آخر، فمن الممكن
أن يقوم شخص ما –حرفياً– بكتابة نص، حتى من "النوع المناسب"، ولا يكون هو
مؤلِّفه. يتضح هذا المثال إن أُملىَ النص على سكرتير، ولكنه ينطبق أيضاً، وإن كان بشكل
أكثر تعقيداً، في حالات أخرى: على سبيل المثال عندما يكتب نجم سينمائي سيرته الذاتية
"بمساعدة كذا"، أو "كما سردها على كذا"؛ أو عندما "يكتب"
سياسي عموداً صحفياً أو يلقى خطبة أنتجها فريق من المساعدين؛ أو عندما يكون عالم ما
هو "المؤلف الأول" على ورقة بحثية أنتجت في معمله، ولكنه في الحقيقة لم يكتب
بنفسه كلمة واحدة فيها. في مثل تلك الحالات يصير واضحاً أن كونك مؤلِّفاً لا يتعلق
فقط بأن تكون السبب أو المُنتِج الحرفي لنوع ما من النصوص، وفقاً لافتراض تعريفنا البسيط،
إنما هو متعلق بالأحرى بأن يتم اعتبارك "مسئولاً" عن النص. كما يشير فوكو،
فإن الثقافات المختلفة لديها معايير مختلفة في إضفاء هذه المسئولية. في العالم القديم
على سبيل المثال كانت كل النصوص الطبية مقبولة على أن لديها مستوى محدّد من السلطة
وكانت معروفة على أنها أعمال لكاتب مرجعي كـ أبوقراط. من جهة أخرى، كانت هناك
فترات يتم فيها تدوير النصوص الأدبية (كالأشعار والقصص) بدون مؤلِّف معروف ولا تعتبر
نصوصاً علينا أن نفرض عليها مؤلِّفاً بعينه (قارن ذلك بالنكات في ثقافتنا).
من منطلق الاعتبارين السابقين –هذا المتعلق
بأنواع النصوص الذي يمكن أن يكون لها مؤلِّفين، وذاك المتعلق بنوع من المسئولية على
النص التي تجعل من شخص ما مؤلفه– يستنتج فوكو أنه علينا -لتوخي الدقة- ألا نتحدث
عن "المؤلِّف" ولكن عن "وظيفة المؤلِّف". أن تكون مؤلِّفاً لا
يعني فحسب أن تكون لديك علاقة واقعية مع نص ما (على سبيل المثال، أن تكون علّة إنتاجه)؛
إنما هو يتعلق بالأحرى بإكمال دور ثقافي واجتماعي معين بالعلاقة مع النص. التأليف هو
بناء اجتماعي، ليس من النوع الطبيعي، ويتنوع باختلاف الثقافات والأزمان.
أكد فوكو بشكل أكبر على فكرة
أن وظيفة المؤلِّف، كما تعمل في نص ما، لا تتطابق مع ذات مفردة (شخص) تكون هي مؤلِّفة
النص. أي أن أي نص "له مؤلِّف"، هو مجموع من الذوات تكمل وظيفة المؤلِّف.
بالتالي، في الرواية التي تعتمد على ضمير الأنا، تختلف الأنا التي تسرد عن الشخص الذي
كتب الكلمات التي تعرضها الأنا في الحقيقة، ولكن كل منهما لديه الحق في الزعم بأن يكون
"المؤلِّف". المثال الكلاسيكي لذلك هو عمل بروست "في البحث عن
الزمن المفقود"، بتفاعله المعقد بين "مارسيل"، الصوت السارد، وبروست
نفسه. يجد فوكو الجمعية نفسها في إحدى الأطروحات الرياضية، التي علينا أن نميز
فيها بين الأنا الموجودة في المقدمة، التي تشكر زوجها على دعمه، والأنا التي تثبت النظرية
في النص الرئيسي والتي تكتب "أنا أفترض" أو "أنا أستنتج". بالطبع
هناك مؤلِّف واحد بالمعنى الواضح متعلق بالشخص الذي كتب كلمات النص. ولكن كمؤلِّف يتخذ
هذا الشخص أدواراً متنوعة، ويعبر عن اختلاف الذوات: «وظيفة المؤلف تعمل لتؤثر
على شتات هؤلاء... الذوات المتتاليين» [What Is an Author?” EW I, 216]
نرى بالفعل أن دور المؤلِّف يمكنه أيضاً
أن يجذب شخصاً مثل فوكو، لا يريد أن يكون ذو هوية واحدة أو ثابتة. ولكن هناك
طرقاً أعمق يمكن للكتابة بها أن تبعدني عن نفسي. لنرى ذلك علينا أن نعود إلى نموذجنا
الشائع المبدئي عن المؤلِّف كشخص يكتب النص. رأينا حتى الآن تعقيدات متعلقة بهوية المؤلِّف.
ولكن هناك أيضاً صعوبات تواجه فكرتنا الشائعة عن كون المؤلِّف (بغض النظر عن كيفية
فهمه) ينتج (يسبب) النصوص التي يكتبها. صاغ فوكو هذه المشكلة بشكل دقيق في كتاب
"الكلمات والأشياء". يقول إن نيتشه أظهر لنا أهمية التساؤل الدائم
عن "من الذي يتحدث؟" في النص (من الذي يدّعي –من الموقف التاريخي، وبأي مصالح
محددة– السلطة لأن يتم الاستماع إليه؟). ولكن فوكو يستمر بأن مالارميه
أجاب على هذا التساؤل، على الأقل فيما يتعلق بالأدب ويقول: إنها «الكلمة نفسها» [Order of Things, 305]. هل هناك معان يعتمد بها النص على
الكلمة، على اللغة نفسها، أكثر من المؤلِّف كما يشير مالارميه؟
بالطبع هناك معان موجودة. كل لغة تجسد
بنية مفهومية ثرية تملي دوماً كيف أتكلّم، وحتى ما الذي أقوله. الإنجليزية الشكسبيرية
تعتبر أداة ممتازة لمناقشة رياضة الصيد بالصقور [Falconry] ولكن ليس كرة القدم. حقيقة أن مسرحيات شكسبير تحتوي
على معالجات تلقائية ومعقدة عن الصيد بالصقور راجعة إلى ما تحتويه الإنجليزية الإليزابيثية
من جهة واهتمام شكسبير بالموضوع من جهة أخرى. إن عاد شكسبير إلى الحياة
وحضر نهائي كأس العالم بين ألمانيا وإنجلترا، سيتعثر كثيراً في تقديم وصف دقيق للمبارة،
رغم كونه أديباً بهذه العظمة. وصفنا لمباراة كرة قدم سيكون أفضل كثيراً من شكسبير،
وليس سبب ذلك هو قدرتنا الأدبية وإنما بسبب اللغة المتاحة لنا.
ولكن يمكنكم أن تقولوا إن هذه مجرد مصادفة،
بسبب حقيقة أن كرة القدم لم تكن موجودة أيام شكسبير، ويمكن تجاوز ذلك بإضافة
مجموعة من الكلمات الإليزابيثية الثانوية تكون ملائمة لوصف مباريات كرة القدم. هذا
صحيح، ولكن أولاً، أي لغة يمكننا استخدامها في الحقيقة يجب أن تكون في نقطة ما وسط
تطورها التاريخي وبالتالي سيكون لها حدود. ثانياً، ربما تكون هناك حدود أساسية في بنية
أي لغة بعينها تجعلها غير قادرة على التعبير ببساطة في مجالات محدّدة. في الحقيقة،
يبدو الأمر أشبه بأن تكون هناك أشياء في ألمانية جوته وريلكه لا يمكن
أن تنتقل بشكل ملائم إلى الإنجليزية على سبيل المثال. كان هايدجر يعتقد –على
الرغم من أنه من الصعب فهم كيف عرف ذلك– أن اليونانيين القدامى والألمان فقط هم القادرين
على الخوض في الفلسفة.
بالتالي، عندما يكتب المؤلفون، فأكثر
ما يقولونه ليس ناتجاً عن رؤيتهم أو قدرتهم المميزة وإنما ناتج عن اللغة التي يستخدمونها.
لأن معظم النص هو لغة يتم التحدّث بها. لا يمكن للمؤلفين أن يتفاعلوا مع هذه الحقيقة
بطرق مختلفة. إحدى الفكرتين وهي المعتادة (الرومانتيكية) ترى أن المؤلِّف يتحرك ضد
بنى اللغة ليعبر عن رؤى فردية فريدة. هنا يكون الافتراض أن لدى المؤلِّف قدرة على الدخول
إلى الرؤية الشخصية ما قبل اللغوية، الذي يعمل تعبيرها ضد ميل اللغة نحو مجرد التعبير
التقليدي. الفكرة "الكلاسيكية" المواجِهة ترى المؤلِّف يقبل ويستخدم البنى
المعتادة ليصوغ عملا آخر يجسد رؤية تقليدية. كل من الرؤيتين الرومانتيكية والكلاسيكية
تعرض الكتابة كمسألة أفراد يعبرون عن أنفسهم، إنها تختلف فقط في أن ما يتم التعبير
عنه هو الرؤية الشخصية للمؤلِّف، أو تطابق المؤلِّف مع التقليد. ولكن فوكو كان
مهتماً بشكل خاص بوضع آخر يرتبط فيه المؤلفون باللغة، ليست الفكرة في هذا الوضع متعلقة
باستخدام اللغة للتعبير عن الذات، ولكن بفقدان الذات في اللغة.
هذا النوع من التأليف يوافق معنى محدداً
من الحداثة الأدبية، مرتبط بـ"موت المؤلف"– على الرغم من أن هذا يعني في
الحقيقة مجرد موت مفهوم المؤلف كشخص معبر ذاتياً كما يُظهِر نقاشنا. والذي يحل محل
هذا المفهوم هو فكرة أن المؤلِّف أداة تدع اللغة تكشف نفسها. ولكن هذه الفكرة لا تبرز
كثيراً في "ما المؤلِّف؟" بقدر ما تبرز في نقاشات فوكو اللاحقة. يقول
في "الكلمات والأشياء" على سبيل المثال: «أفكارنا الفضولية الآن تدور
حول هذا السؤال: ما اللغة، كيف يمكننا أن نجد طريقنا حولها، من أجل أن نظهرها في ذاتها،
بكل وفرتها« [OT, 306]
الفكرة بارزة بشكل خاص في خطاب فوكو
الافتتاحي لحصوله على كرسيه بالكوليج دي فرانس (الخطاب المعنون بـ "نظام الخطاب"
[l’ordre du discourse]،
والذي ترجم إلى الإنجليزية بشكل غريب إلى "خطاب في اللغة" [the discourse on language]) هنا نجد صدى شخصي قوي لهذه الفكرة عند فوكو، وهو مُطالَب
بأن يلقي خطاباً عاماً. بدأ قائلاً: «كنت أودّ بالفعل أن أنزلق
بشكل غير مُدرِك إلى هذه المحاضرة... كنت أُفَضِّل أن أحاط بالكلمات... في لحظة الحديث،
كنت أود أن أُدرَك وكأني صوت بلا اسم، يسبقني بوقت طويل، ويتركني بشكل مجرد لأضع نفسي
في شراكه...» [Dl, 2150]. ربط فوكو نفسه بالصوت الحداثي لشخصية "مولوي"
عند صمويل بيكيت: «عليّ أن أستمر؛ أنا لا أستطيع الاستمرار، عليّ أن أستمر؛
عليّ أن أقول الكلمات طالما ظلت كلمات، عليّ أن أقولها حتى تجدني، حتى تقولني...» [Samuel Beckett, The Unnameable, quoted in DL, 215]. يناقش لاحقاً في هذه
المحاضرة أن فكرة المؤلف على أنه «مبدأ موحد في مجموعة من الكتابات أو التصريحات، يقبع في أصول
دلالتها، كأنه مجلس تماسكها« [DL, 221]، ليس مصدر التعبير الخلاّق، بقدر
ما هو مبدأ للتحديد، يجبرنا على أن نقرأ نصاً متطابقاً مع المشروع التأليفي المفهوم.
في النهاية يعود بشكل سلس من هذه الرحلات النظرية إلى الحدث الموجود فيه، قائلاً إن
الصوت الذي يطمح إليه والذي «يسبقني، ويدعمني، ويدعوني إلى الحديث ويسكن بداخل خطابي» هو في الحقيقة صوت جان
هيبوليت، أستاذه القدير السابق وسلفه المباشر على كرسي الفلسفة بالكوليج دي فرانس [DL, 237]. ولكن يظل واضحاً أن لغة فوكو، تستطيع ويجب
أن تأخذنا فيما وراء وضع التعبير الذاتي أو حتى المتداخل ذاتياً.
ولكن بأي معنى يمكن للغة أن تقدّم لنا
حقيقة خلف مجموع أنواتنا الذاتية؟ هناك بالطبع حقيقة أن اللغة تقدم إطاراً لوجودنا
اليومي، خلال بنى قريبة جداً منا لملاحظتها كما يمكن القول. فلسفة اللغة التقليدية
الأنجلوفونية، التي تبعت فتجنشتاين في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين،
قدمت طريقاً بدون عودة لكشف "اللاوعي" اللغوي. في كتاب "أركولوجيا المعرفة"
طَوَّر فوكو في الستينيات من القرن العشرين طريقاً آخر أكثر تاريخانية. ولكن
نسيج فكره الذي نتبعه حالياً غير متعلق باللغة كبنية تحتية للحياة اليومية. إعجابه
هنا متعلق بشكل أكبر بالكتابة التي تضع ضغطاً كبيراً على اللغة، التي تدفعها نحو حدودها
بالتناقض، ونتيجة هذا تظهر تجارب الانتهاك والخرق.
المثال الرئيسي لمثل هذه الكتابة هي
كتابة جورج باتاي، الذي كتب فوكو عنه مقالاً غامضاً: "مقدمة للانتهاك".
الجنسانية، الموضوع الرئيسي لأدب باتاي البورونجرافي العنيف، تمثل موضعاً رئيسياً
للانتهاك لأنه متضمن في كل تجاربنا الحدّية (مصطلح فوكو لتجارب الانتهاك، تلك
التي تأخذنا إلى حدود الوضوح والتهذيب أو فيما ورائهما). تدفع الوعي إلى حدود اللاوعي،
ذلك الذي نعرف عنه منذ فرويد أنه تعبير عن الرغبات الجنسية. حدّ قوانين المجتمعات
الإنسانية هو المحظور العالمي لزنا المحارم. وحدود اللغة التي التي توصِّف، بكلمات
فوكو، «إلى أي حدّ يمكن أن يتقدم الخطاب نحو رمال الصمت» (مقدمة للانتهاك، EW II, 70)، هي محدّدة دوماً بـ "الكلمات
الممنوعة" للجنسانية.
الكتابة البورنوجرافية هي وسيط محافظ
بشكل نموذجي، هي سلسلة من الكليشهيات، محمّلة بالارتباطات الإيروتيكية التي تستثير
الرغبة، ولكنها لا تقدّم أوضاعاً جديدة للتجربة أو الفكر. ولكن بورنوجرافيا باتاي
لا تستثير بقدر ما تصدم، وتحفز، وتبهر بداخل تطرّف صورها، مزعجة لأنه يتم التعبير عنها
بنثر كلاسيكي واضح. يتم تكثيفها أكثر بالتناقض المتضمن في العالم ما بعد النتيشوي الذي
يسكنه باتاي. الله ميت في ذلك العالم، هذا الذي يعني أنه لا توجد حدود مُعَرَّفة
بموضوعية للفكر أو الفعل يمكن أن ندفع أنفسنا في مواجهتها. «التدنيس في عالم لم يعد
يدرك أي معنى إيجابي في المقدس –أليس هذا ما يمكننا أن نقول عليه انتهاك بشكل أكثر
أو أقل؟» حدودنا هي تلك الحدود التي نعرفها والتي نضعها بأنفسنا،
بالتالي التجاوز (الانتهاك) فيما ورائها يمكن أن يعني فحسب التمرد ضد أنفسنا، خلال
«انتهاك
فارغ وموجه إلى الداخل تجاه نفسه، وأدواته لا تواجه شيئا سوى بعضها البعض [EW II, 70].« ولكن العبث
التام لهذا الجهد يعلي التجربة الحدّية خلال تحديها لقوانين المنطق نفسها.
الفكرة
من هذا التدريب على التطرّف هو تحرير القوى بداخل اللغة التي ستدفعنا إلى حدود مفاهيمنا
وخبراتنا العادية وتقدم لنا لمحة (ربما لمحة مُغَيِّرة)، عن الأوضاع الجديدة للفكر
بشكل جذري. في كل هذا، يمكن لـ باتاي المؤلف أن يزعم بوجود مدخل للرؤية الفكرية
التحتية أو الفوقية من عالم آخر (وهو في النهاية في الحياة الحقيقية أكثر الناس عادية:
مدير المكتبيين في المكتبة الوطنية). ولكن هذه الكتابة مصمّمة لاستخلاص حقائق منتهكة
جديدة من اللغة، يمكنها أن تأخذه هو وقرائه فيما وراء مملكة معرفتهم وقدرتهم على التعبير.
ولكن عنف باتاي البورنوجرافي
ليس الطريقة الوحيدة لإفراد مساحة للغة نفسها لتتحدث. بينما أدب موريس بلانشو
يفيض من فرط الذاتية، من الفانتازيا الإيروتيكية التي تدفع إلى الحدود غير العادية،
فكتابته تومض بالغرابة التي تتجلى بسبب الانسحاب الكامل من كل الذاتية. بلانشو
كما يقرأه فوكو هو أستاذ «التفكير من الخارج»، فكر (أو حتى خبرة) يجسد
«انهيار
الذاتية الفلسفية وشتاتها في لغة تقوم بتجريدها وهي تضاعفها بداخل الفضاء الذي خلقه
غيابها« [A preface to Transgression”, EW II, 79] تماماً مثلما لدى باتاي.
يقتفي فوكو أثر هذه التجربة بداية من ساد وهولدرلين خلال نيتشه
ومالارميه وآرتو وباتاي وكلوسوفسكي، وصولاً إلى الذروة
عند بلانشو، الذي يقول عنه:«ربما يكون أكثر من مجرد شاهد على هذا الفكر». لأن بلانشو غائب
تماماً عن نصوصه لأنه «بالنسبة لنا هو الفكر نفسه–حقيقته، بعيد تماماً، يومض، حضور
غير مرئي، قدره الضروري، قانونه الحتمي، هدوءه، لا نهايته، قوته المقاسة « [“The Thought of the outside”, EW II, 151]. بينما أسلافه عبروا عن فكر الخارج
بفصل اللغة، بطرق متعددة، من جذورها بوعي إلهي وإنساني. يمكن أن نقول إن خرق باتاي
المنتشي يوازي زهدية بلانشو المنسحب. في تناقضات التجربة الحديثة، الاثنان متطابقان.
لأن عند كليهما –على الرغم من أن فوكو قد يفكر بشكل أكثر نقاء وحسم في بلانشو–
تحل الذات المركزية والمتحكمة محل اللغة نفسها. ليست اللغة كأداة أو تعبير عن الوعي،
ولكن اللغة «في وجودها الغافل والمنتبه، بقوته المتخفية التي تمحو كل
معنى محدّد وتمحو حتى وجود المتكلم« [EW II, 168].
الانتهاك، التناقض، شتات الذاتية، كلها
تمتزج في التجربة الحدّية النهائية للجنون نفسه، لهؤلاء "الذين وصلوا إلى النهاية"
كما نقول. سوف نناقش معالجة فوكو الثرية والمثيرة للتفكير لاحقاً، ولكننا لن
نشعر بالمفاجأة من كونه اهتم بأعمال المؤلفين المجانين مثل نيتشه وآرتو
وريمون روسيل (كل الذين صنفوا عيادياً كمجانين في نقطة أو أخرى). ولكن
فوكو يؤكد على أنه حتى في تلك الحالات فإنجاز الكاتب لا يكون متطابقاً تماماً
مع المجنون. يذكرنا بأن «الجنون هو بالضبط غياب العمل الفني «[MC, 287]. الجنون التام يجعل الكتابة الدالة مستحيلة، ونحن على سبيل
المثال لا نعتبر خطابات نيتشه المجنونة الأخيرة المرسلة من تورين (الموقعة باسم
"المسيح" و"ديونسوس") جزءاً من أعماله. اهتمام الكتاب "المجانين"
المتميّز والخاص راجع إلى موقفهم الحدّي على حدود العالم العاقل. كتابتهم تعمل في المساحة
الفاصلة بين التماسك وعدم التماسك، "اضطرابهم" العقلي يؤثر على الانتهاك
والانسحاب اللذان وصلا لهما باتاي وبلانشو بوسائل مقصودة. رأينا في الفصل
الأول كيف استخدم روسيل قيوداً اعتباطية ليفتح الطريق لكتابة غير مدفوعة بأي
رغبات للتعبير عن أفكار الكاتب، تلك التي أفسحت الطريق لحقل بنية لغوية غير مسترشدة
ومنفتحة. المؤلفون الآخرون المتأثرون بروسيل، استخدموا أدوات مشابهة، خاصة أعضاء
جماعة أوليبو [Ouvroir de literature potentielle] كـ ريمون كوينيو، وجورج بيريك، وإيتالو
كالفينو، وهاري ماتيوس. المثال الأكثر شهرة هو رواية بيريك
"الاختفاء" [La disparition] وهي رواية كتبت بالفرنسية بدون استخدام واحد لحرف الـ“e”.
إعجاب فوكو بالأدب الطليعي هو
جانب من ميله للبحث عن الحقيقة والإنجاز فيما وراء الوجود العادي، في التجارب المتطرفة
(المحدودة). وكما قال في حوار (قبل عامين من موته):
»اللذات المتوسطة التي تصنع الحياة اليومية... لا تمثل شيئاً
بالنسبة لي... اللذة يجب أن تكون مكثفة بشكل كبير... بعض المخدرات مهمّة فعلاً بالنسبة
لي لأنها وسائط إلى هذه المباهج كبيرة الكثافة التي أسعى إليها«. [“Michel Foucault: An Interview by Stephen Riggins”, EW I, 129]
ولكن بينما ظل إغواء الكثافة مهماً لـ
فوكو كفرد محدد، يبدو بعد الستينيات من القرن العشرين (عندما كتب جل مقالاته
الأدبية تقريباً)، أقلّ اقتناعاً بالتجارب الحدّية التي تستثيرها وهي مفاتيح المجتمع
المتغير. وبدلاً من ذلك، انتقل إلى مفاهيم سياسية أكثر متعلقة بما يتم احتياجه للتأثير
في التحرير الإنساني. في الفصل الثاني سنتبع هذا النقاش في فكر فوكو.
هامش:
* جاري جوتينج: فيلسوف أمريكي، وأستاذ
الفلسفة بجامعة نوتردام.
مصدر النص الأصلي: النص هو ترجمة الفصل الثاني من كتاب "فوكو – مقدمة
قصيرة جدا" لجاري جوتينج
“Foucault: a Very Short Introduction – Gary
Gutting – Oxford University press 2005”
مصدر الترجمة: موقع Boring Books
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق