ترجمة:
محمد عيد إبراهيم
المسيح المصلوب هو التسامي الأعظم للرموز كافّةً ـ حتى
في عصرنا!
فريدريك نيتشه، 1885/ 1886
Jacques-André Boiffard
|
أودّ
الآنَ أن أقارنَ، لا بين خيرٍ وشرٍّ، بل بين "الذروة الأخلاقية"،
المختلفة عن الخير، و"الانهيار"، الذي لا نفع فيه مع الشرّ بل تقرّرُ
ضرورته، على النقيضِ، أنماطَ الخير.
تنسجمُ
الذروة مع الإفراط، مع وفرةِ القوَى. وتستجلبُ أقصَى كثافةٍ تراجيدية. كما تتعلّق
بإنفاقاتِ الطاقةِ غير القياسية والتعدّي على سلامةِ الكائناتِ الفردية. ولهذا فهي
أقربُ إلى الشرّ منها إلى الخير.
يهِبُ
الانهيارُ -المنسجمُ مع لحظاتِ الإنهاكِ والتعب- القيمةَ كاملةً لاهتماماتِ
الحفاظِ على الفرد وإغنائه. من هنا تتأَتّى قوانينُ الفضيلة.
ولنبدأ،
سأُبيّن كَم أن ذروةَ المسيحِ على الصليبِ هي تعبيرٌ جدّ مبهمٍ عن الشرّ.
حافظَ
المسيحيون على قتلِ يسوعَ المسيحِ كجماعةٍ تودّ أن تتأَبّط شراً.
فهي
أكبر خطيئة ارتُكبت.
كما
تحوزُ طبيعةً لا محدودة. فلم يكن المجرمون الممثّلين الوحيدين بهذهِ الدراما، لأن
الخطأ قد انحدرَ إلى البشريةِ كافّةً. كلّما ارتكبَ امرؤ شراً [يتطلّب الأمر من
كلّ منا أن يرتكبَ شراً]، فهو يضعُ المسيحَ على الصليب.
صلبَ
جلاّدو بيلاطسَ(*) المسيحَ، مع أنهم أعدموا الربّ الذي سَمّروه على الصليبِ
كتضحية. فالجريمةُ هي مُعامِلُ هذه التضحيةِ، وهي الجريمةُ التي يرتكبها الخطاةُ
منذ آدم بلا حدود. ثمةَ اشمئزازٌ مكتوم في حياةِ البشر [كلّ ما هو ملطّخٌ ومستحيلٌ
نحمله في أماكنهِ السرية، لنبرئ شرّه المكثّفَ في عفنه] يتضمّن خيراً مدنّساً
يُتوّجهُ النجاحُ، ولا نتخيّل شيئاً أقرب منه.
إن
قتلَ المسيحِ يجرحُ كينونةَ الربّ.
لكأنّ
المخلوقاتِ لم تستطع التواصلَ مع خالقِها إلاّ عبر جرحٍ يمزّقُ الكمالَ.
الجرحُ
مقصودٌ ومرغوبٌ من جهةِ الربّ.
ولم
يُذنب البشرُ الذين فعلوه بدرجةٍ أقلّ.
من
جهةٍ أخرى -وليسَت الأقلّ غرابةً- فالذنبُ جرحٌ يمزّقُ كمالَ كلّ كائنٍ مذنب.
هكذا
يلتمّ الربّ [الجريحُ بذنبٍ بشريّ] والبشريةُ [الجريحةُ بذنبها مع توقيرِ الربّ]،
في شملٍ، وإن كان مؤلماً، لكن يبدو أنه غرضهما جميعاً.
لو
احتفظت البشريةُ بكمالها ولم تخطئ، لثابرَ الربّ من جهةٍ والبشريةُ من جهةٍ أخرى
في عزلتهما الموقّرة. ليلُ الموتِ حيث ينزفُ الخالقُ والمخلوقاتُ ممزِّقاً كلٌّ
منهما الآخرَ ومن الجهاتِ كافّةً، قد تحدّوه بأقصَى حدٍّ من العار: وهو المطلوبُ
من تعاونهما.
ولهذا، فإن "التواصل"، من
دونِ ما يتبقّى لنا، تكفلهُ الجريمةُ. "التواصل" هو الحبّ، والحبّ يلطّخ
مَن يشمله.
في
اعتلاءِ الصليبِ، يصلُ البشرُ إلى ذروةِ الشرّ. لكن، بوصولهم هناك تنقطع البشرية
حرفياً عن انفصالها عن الربّ. لأن "تواصلَ" البشريةِ، بوضوح، يكفلهُ
الشرّ. ومن دونِ الشرّ، ينقلبُ الوجودُ البشريّ على نفسه، ينطوي نحو منطقة
استقلال: وفي الواقع فإن غياب "التواصل" -العزلة الفارغة- قد يكون
قطعياً هو الشرّ الأعظم.
وضعيةُ
البشريةِ تستحثّ التعاطفَ.
فهي
مدفوعةٌ كي "تتواصلَ" [مع الوجود اللامحدود ومع أنفسهم]: أما غيابُ
"التواصل" [الانطواء الذاتيّ على النفس] فيستحثّ بوضوحٍ الإدانةَ
الأكبرَ. ولأن "التواصلَ" لا يتمّ من دون جرح أو تلطيخ إنسانيتنا، فهو
"التواصل"، نفسه، مذنبٌ. ومهما قدّمنا تفسيراً للخير، فهو خيرُ أفرادٍ -لكن
معَ رغبتنا في الوصولِ إليهِ [ليلاً وعبرَ الشرّ]، نُكرَه على سؤالِ الأفرادِ
المقرّبين في العلاقة عمّا كنا نبحث عنه.
ونعبّر
عن المبدأ الأساس كالتالي:
ليسَ
بمقدورِ "التواصلِ" أن ينبثقَ من فردٍ كاملٍ وسليمٍ إلى آخر. فهو يتطلّب
أفراداً، وجودُهم المعزولُ ضمنَ أنفسهم، معرَّضٌ للخطر، موضوعٌ على حدّ الموتِ
والعدم؛ إن الذروةَ الأخلاقيةَ هي لحظةُ الخطرِ المرسوم، هي الكائنُ المتعطّل فيما
وراء نفسه، عند حدّ العدم.
الهامش:
(*) Pilate: (26/ 36 م) الإمبراطور اليونانيّ
الذي أصرّ على صلب السيد المسيح. (م)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق