الدكتور شاكر عبد الحميد |
بعد
فرويد بسنوات عشر كان جورج باتاي الفيلسوف الفرنسي يتحدث في سياق
السيريالية الفرنسية عمّا سماه: "الذي لا شكل له" (informe/ Formless)،
أي كل ما يفتقر للشكل الدال أو المعنى، وكذلك كل ما يتعلق بالعملية الجمالية، الأخلاقية
المادية (الفيزيقية) التي تنطوي على إنقاص من القيمة وجلب للأشياء الموجودة في
منزلة أدنى في العالم، ووضعها في دائرة الضوء، وذلك من خلال النزع عنها لكل تلك
الدلالات النبيلة الراقية السامية الموجودة في العالم. ولم يكن هذا التفريغ أو
الإفراغ للدلالة متعلقاً بشيء في ذاته، بل، بعملية نشطة في جوهرها، نوع من الأداء
المماثل للعنف المتضمن في الكلمات البذيئة الفاحشة (هكذا اعتبر باتاي رائحة
الحذاء مثلاً أفضل من صورة شخصية جميلة).
وهنا يكون المبعد أو المنفر هو ما
يشير لدى باتاي-وقبل أن تقول كريستيفا ذلك بعدّة عقود، إلى الخبرات
الخاصة بالعالم الخارجي التي تستثير الاشمئزاز أو الصدمة لدى الفرد، والفن المقزز
هو نوع من الأداء يسعى من أجل استثارة استجابة انفعالية تعمل على نزع الغموض
والسحر عن الموضوع أو الحدث من خلال الذهاب إلى قلبه وجوهره، حقيقته البيولوجية
والوجودية الداخلية، ومن ثم فإن هذا يقوض الوهم/ الهذاء الخاص بتاريخ الفن حول
نقاء الموضوعات، نقاء الانفعالات الخاصة بها، ومن ثم قد يمكننا هنا، دراستها
وفهمها موضوعياً.
بعد باتاي بحوالي خمسين سنة ربطت جوليا
كريستيفا من منظور فلسفي ولغوي وأدبي وتحليلي نفسي في كتابها " قوى الرعب"
بين المبعد المنفر والتافه والنفاية لدى باتاي فقالت عنه إنه إنقاص وانتقاص
من الناحية الجسمية والذي من تجلياته: السوائل الجسدية، الجروح المفتوحة والقيء
والوحل والقذارة وما هو لزج ودم الحيض واللعاب الفطري والعفن، كما أنها قالت أيضاً
إن المنفر هو حالة مهجنة أقل درجة، توجد عند الحواف أو الحدود الخارجية للحياة
والموت، ليست ذاتاً ولا موضوعاً، بل قد توجد، قبل أن تتكون الذات أو الشخصية
الإنسانية كما هو الحال في السوائل التي تحيط بالجنين قبل ولادته، وقد توجد أيضاً
بعد أن يتوقف الكائن عن الوجود ويصبح موضوعاً (كما هو بالنسبة لجثث الموتى أو
أعضاء الجسم المبتورة)، ومثله مثل الناقص (informe) لدي باتاي، فإن المعنى يتصدّع
أيضاً وينهار فيما يتعلق بتصدع فيها يتعلق بالمنفر ذلك الذي يوجد مستتراً بين الذوات. فيما بين الذوات
الفردية والفكر العقلاني والثقافي، هامشي ومألوف، غائب لكنه حاضر دائماً كحالة أو
عملية لا شعورية وغريبة.
ولدى الناقدة السينمائية لورا مولفي
"المنفر" هو الذروة في عملية التكثيف السينمائي المتدرج أو المتصاعد
للسرد الخاص بالرعب ومن ثم النفور وربما الغثيان.
وقد ذكر باتاي أن هدف الفن
هو التحدي والاختبار والتحدي لحدود الإعلاء أو التسامي التي يفرضها المجتمع، وأن
الكريه المنفر من الفن إنما يرتبط بالشروط الخاصة التي تعيشها الطبقات الدنيا من المقموعين
بفعل قوانين واستعارات يفرضها أنصار الضبط الاجتماعي من المحافظين والتقليديين.
ولدى باتاي هناك أربعة
معايير للمنفر من الفن هي:
1.
الطبيعة المادية قليلة القيمة والأهمية، حيث تتكون مادة
الفن هنا من مواد أقل قيمة تصل إلى درجة من البقايا والنفايات، حيث قد يكون الحذاء
ذو الرائحة النفاذة المنفرة، مثلاً، أهم من صورة جميلة.
2.
الأفقية وذلك في معارضة لمبدأ الرأسية الذي ينطوي على
قيم ومراتب أدنى وأعلى داخل الفن أو المجتمع حيث في الفن تكون كلّ الموضوعات سواء
داخل العمل.
3.
النبض (Pulse): وهي نوع من الهز والتحريك البطيء غير المدرك لسطح العمل من أجل
الإنتاج لأثر غريب معين وربما مثير للقلق والاضطراب يرتبط بالتغير.
4. الفوضى داخل النظام أو الانتروبيا
(Entropy) التقليل من قدر الطاقة التي
تؤدي إلى الاضطراب والإعلاء من أهمية تفكك المادة أو تشتتها ويرتبط هذا المصطلح
بذلك القدر الخاص من الفوضى الموجودة في أي نظام من نظم التفاعل والاتصال وهي
الفوضى التي قد تتغلب على أي نظام فتقلبه رأساً
على عقب، وقد كتب أرنهايم كتاباً كاملاً حول هذا المفهوم مع تطبيقات خاصة
له في مجال الفن التشكيلي.
المصدر: شاكر عبد الحميد، الفن والغرابة؛ مقدمة في تجليات
الغريب في الفن والحياة، مكتبة الأسرة، سلسلة الفنون، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
طبعة سنة 2010، صص130-132.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق