الرسام السويسري فرديناند هودلر يقترح أجساداً
على مفترق الإيروسية والأبدية
Ferdinand Hodler |
الجسد في غواية الليل والجسد في مكر النهار، لعبة لتضليل الموت عن لحظة الحب وسيرة الوجود المترنحة على سراط رفيع بين الإيروس
والثاناتوس..
عانى
هودلر من إقامة الموت الفادحة في أيامه (مات أبوه بالسل وماتت أمه وإخوته
الخمسة بالداء نفسه تباعاً) وكان هو
الناجي الوحيد من بين أفراد عائلته التي عاشت في أحد أحياء بيرن الفقيرة، لم
يهادنه الموت بل تربص به فتعايش معه في جسد معشوقته ( فالنتين غوديه –داريل) التي فتك بها السرطان، وكان يراقب خطوات الموت
الحثيثة وهي تدنو من الجسد البهي الذي أحبه، لم يهرب هودلر من صحبة المرأة
المحبوبة والموت يمتص أنوثتها ويحيل جمالها إلى
صورة تراجيدية للتحلل في العدم والتلاشي الوجيز في النهاية، ولم يفارقها هودلر
لحظة واحدة خلال عامي مرضها الداهم، بل
كان يؤسلب عذاب جسدها برؤية إيروسية مفتونة ويعلن يأسه برسم عشرات اللوحات والتخطيطات لها وهى تذوي كل
صباح وتسرع الى الأبدية شبحاً وحيداً، وظل
يرسمها من منظورات متعددة: رسم تحولات الوجه النضر وجفافه، رسم يديها وعنقها ونظرتها الأسيانة وهي توغل في
القنوط وتنأى عنه وعن الزهور التي كان يجددها لها كلّ صباح، رسم بحمية جنونية لحظات احتضارها المريعة واستسلام بقايا جسدها الجميل لشناعة الموت في همود الرغبة، رسمها وهي جثة شبحية تكاد تشفّ لفرط خفتها راقدة على
سرير موتها بكامل عدة رحيلها إلى العدم..
و في المعرض الشامل الذي زرته في متحف الفنون في بيرن خصصت قاعة كاملة لملحمة
حبه لهذه المرأة، وعرضت لوحات كبيرة
عن احتفاء هودلر الإيروسي بالحب في
قاعة أخرى سميت قاعة الحب..
تعود
جذور فنه في زمنيتها الى القرن التاسع عشر، لكنه حقق اندفاعاً مشهوداً في حركة
الأفانغارد (الطليعية) وركز على الثيمتين الأساسيتين في الشرط الإنساني وهما: الحب
والموت.
وكانت له علاقة حيوية ملهمة مع موضوعة الحب التي
تعد من الموضوعات المركزية في الإتجاه الرمزي والفن الحداثي وتتحرر موضوعة الحب في
أعماله من الدراماتيكية المفرطة والنزعة الأخلاقية وغرابة الأطوار..
وتبدو شخوص لوحاته وكأنها جزء من عالم أكبر وأوسع من حدود الجسد لارتباطها بالطبيعة والكون وتواصلها
مع الزهور والسحب والضوء والعتمة حتى
لتبدو مندغمة في الوسط الذي تتراءى فيه:
«أنا أرسم
الجسد الإنساني وهو تحت تأثير العاطفة الجياشة حين تبوح كل حاسة فيه بإيماءاتها»
هكذا يقنص اللحظة القصوى ليكشف عن مشاعر الرغبة
والخوف وهي تنضح من الأجساد التي يكرسها
لتكون شاهدة على الوضع الإنساني برمزية شعائرية..
منذ ارتطامه الفاجع بالموت شاء هودلر أن
يقاومه بإيروسية صاخبة ويتقدم خطوة على مكائد الموت، خطوتان على طريق الجسد،
أو هي خطى تجملها لوحاته التي تعلن عشقه المحسوم للجسد وما وراءه من عمق روحاني أو
تشظيات نفسية أو أوهام تخصّ الأمل والإيمان والرغبة ورغم أهمية معرضه التاريخي لمناسبة مرور 150
عاماً على مولده والذي ضم 150 عملاً أيضاً، سأخص بالحديث عملين أساسيين من أعماله
هما لوحة الليل ولوحة النهار..
لوحة الليل 1889: الفضيحة
تحت تأثير مفهوم (التوازي) أدرك هودلر أهمية
تكرار التشكلات في اللوحة الواحدة واقتنع أن خلقه لمجاميع من الهيئات أو الأشكال يوصله إلى هدفه الذي يعجز عنه الشكل
المنفرد، فإيحاءات التكرار تعزز قوة الثيمة التصويرية وتبث شفراتها على نحو أكثر
فاعلية، ومن خلال مفهوم التوازي توصل هودلر إلى إظهار الوحدة بين الجانب
الحسي الإيروتيكي والجانب التصويري الذي تكرست أصوله وتقاليده..
La Nuit, par Ferdinand Hodler |
استطاع هودلر اختراق المنظومات القيمية
وتقاليد الفن المعتادة بلوحته الرمزية (الليل) والتي فجرت فضيحة في الأوساط الثقافية في (جنيف) خلال
شهر فبراير 1891 إذ مُنعت من العرض واعتبرت خرقاً للمفهومات القارّة والقيم الأخلاقية ,وبعد أسابيع من الفضيحة تمّ عرضها
في صالون (شامب دو مارس) في باريس وحققت أول
نجاح وشهرة مدوية له خارج وطنه وكرسته أحد فناني الرمزية الحديثة..
فضيحة
المفهومات لا ترقى في حجمها وانفجارها الى فضيحة اغتصاب الموت الدائم للحياة، فقد شاء هودلر أن يدين الموت ويكشف فظاعة
انقضاضه على الإنسان في وسط إيروسي
ومشهد مبهر للأجساد البشرية التي
توجز اللذة والإفتتان الغامر بالحياة..
لوحة
الليل هي لوحته الرمزية المفعمة بتكوينات درامية وحسية تبوح بها الأجساد السبعة الراقدة
التي تتباين أوضاعها مابين الاستسلام الأخير
المنهك مابعد اللذة، وما بين الانكفاء على حيوية الجسد المستوحد أو التنائي عن
الآخر والاستغراق في الرغبة ببعدها الأرضي وتوهجها الكوني..
الليل
هنا-غواية وأفق ٌللتناغم بين الذكورة والأنوثة،
يختلج بشهوات وارهاصات هي مزيج من الجنس المتساوق مع الموت بنفس درجة تناغمه مع الحياة..
يعتمد
التكوين الإنشائي للوحة تكرار وتقابل الشخصيات رجل وحيد وامرأة وحيدة في زاويتين متكاملتين
ورجل وامرأة ومثلهما اثنان في الزاوية المقابلة بينما يجري الحدث الأساسي في مركز اللوحة
حيث الموت المتخفي بالسواد يغتصب الرجل المرتاع الذي فجعه الهجوم المباغت للموت
فقاومه بقوة وكان هو الشخص الوحيد المتمتع بصحو الحياة بين الأجساد الراقدة..
ثمة ليل، لكننا نرى الأجساد مضاءة بالحب أو مقذوفة
في متع النوم بعد الحب..
وثمة رجال ونساء على برزخ الحياة مابين الشهوة
الذاوية والموت ومابين العتمات وضوء الجسد المشع بتنويعات التجربة الإيروسية،
واستسلامه لتوحش الليل حين يكون على وشك
اختطا ف الجسد بتلك الغلالات السود التي تحجب أجزاء من أجسام الراقدين وتكدر نصوع
الجمال المخدر بالمتع..
تتعارض كثافة
الحضور الإنساني في اللوحة –متمثلة بالأجساد الراقدة في حمى إيروس - مع تفرد
ثاناتوس الهابط كشبح أسود وحيد وغامض ومجلل بالعتمة على جسد الرجل العاري
في مركز اللوحة، حيث تتركز حتمية الموت في سلطة متوحشة تغتصب رجولة الشخص المفزوع،
الموت يداهم عضوه الجنسي في حربه المستديمة مع إيروس ويحاول اخصاء الحياة في
صحوتها وعنفوانها..
يلتقط
الرسام الهجوم المباغت للموت والمقاومة العنيفة للرجل، على نحو مدهش ويقدم لنا بداهة التهديد المحتوم للموت المعلق
فوق رؤوسنا جميعاً وبخاصة في انخداع الإنسان بالأبدية لحظة تماسّه مع المطلق في
لحظة الذروة.
يكاد
الشخص المركزي في اللوحة أن يكون تمثيلاً
لشخصية الرسام وتجربته الأليمة مع الموت وجسده المستفز القوي يفيض بممكنات الحياة وتشع منه الرغبة التي لايمهلها الموت..
كل
جسد في اللوحة -سواء ذلك الذي ينعم باللذة أو ذلك المنكفيء على وحدته- يشي بدخان
الحرب الخفية بين الحب والموت ويبوح أكثر بمعضلة العدم المتربص بالأجساد ليحيلها
رمماً ورماداً وسواداً بعد تألقها في الحب..
لذة الجنس هنا تقارب الموت في آونة المطلق
فتستدعيه ليكون برهانها على السطوع العابر
في عتمة الليل..
لوحة النهار1900: أسلبة العري وشعرية الضوء
مكر
النهار يغوي ببهاء الخمس العاريات في عزلة الماء والضوء -على شاطيء بحيرة معشب-
محاطات بنميمة البصر، وتأويلات العقل، مكرسات
للتوغل في الطبيعة والتلاشي في تفاصيلها، يعرضن في خدرهن النهاري بداهات
يقظة ملتبسة بالحلم، يقظة إشباع عاطفي، واستسلام
للحظة الحاضر المكشوفة العارية تحت فيوض الشمس، النساء الخمس ينسجن شكل
النهار والآونة الحية كل بإيماءاتها وطريقتها في التعاطي مع عريها
المضيء..
Le Jour, par Ferdinand Hodler |
مخلصات
لعريهن الفواح بالبراءة، وهن يزاولن عبور الزمن تحت أنظارنا التي لاتخطيء في رؤية الأبدية متخفية في وجوه النساء المستفيقات
تواً من ذلك الليل المهدد..
عريهن
الشمسي يوهمنا بإمكان الافلات من قبضة الموت، وانغمار أجسادهن بالضوء يستبعد أي
فكرة للموت: أجسادهن لم تخضع لمعايير الجمال النمطية بل تجاوزتها الى الإقرار بفتنة
خلل المقياس المتعارف عليه وقبول الطبيعة كما ترتئي عشوائيتها أحياناً ربما
لخداع الموت عن الجمال الكامن تحت الجسد المعلن..
المرأة العارية التي تتوسط اللوحة (هي موديله
المتكرر في معظم الأعمال)، يكاد توتر جسدها المستيقظ وحركة ذراعيها وإيماءات يديها
أن يحرج صفاء الإفاقة بالعودة الى قاع حلم شهواني، فحزنها المتوحش المنبثق
من ملامحها يخرق النهار ويؤسس للأنوثة
ثأرها من الليل، صمتها كان فادحاً لأنه أشبه بصيحة وسط العراء يتردد
صداها إلى ما لانهاية، والنساء الأخريات في ظاهرهن اللامبالي كن على وعي بما يهدد هذا
الجسد المنتشي بالنور، لكنهن يجازفن بعريهن
ويتوغلن في الغياب متنائيات عن
الجسد وكأنه لاينتمي إليهن بقدر ما ينتمي
للماء والزهور والهواء والشمس التي تتلقى
صلاة الأجساد المستفيقة..
نظرة
واحدة أخرى إلى عاريات النهار تخبرنا أنهن حارسات الأبدية في النهار الماكر، هن
المقيمات في الضوء اللائي غادرن الزمن الأرضي إلى النهايات الأبعد للوجود، مسحورات
باليقظة ومسيّرات بالحلم..
على إيقاع
حركة الأجساد المستفيقة التي تحيلنا إلى العمل الموسيقى باليه "طقوس الربيع" للموسيقار الحداثي إيغور سترافنسكي -
برع هودلر في توزيع الانعكاسات على كل واحدة من نسائه الخمس العاريات إنما بأسلبة تتباين في التفاصيل وجرعة الإيروسية لكلّ إمراة منهن، وهن يشاركن الأرض إفاقتها، واستناداً
إلى إيقاع أجسادهن المتناغم مع صعود
النهار يتلاشى ذلك التهديد المبرم للموت ويتراجع ربما حتى أفول الضوء، فالنهار
خادع بالأمان الذي يضلل به خطوة الإنسان نحو الليل وكأنهما - النهار والليل- يتقاسمان
لعبة الخداع المتكررة ويتواطآن على ترسيم خطوات
العدم..
لغة
الضوء والعري هي الأسلوب الذي يستعيد النهار من قبضة الليل، فالجسد الذي كان في
اللوحة الليلية ملطخاً بخرق سود تمهد لاكتمال سطوة الموت، هاهو الآن يتألق ناجياً
ومشعاً يتعالى في اشتباكه مع الحياة وعناصرها، حراً ومندغماً بالأبدية عبر يقظة
تدحض مكر النهار إلى حين..
وعلى أساس هذا العمل رسم هودلر تنويعات متعددة مابين 1904 و1907 ثم عمد ثانية إلى إعادة تكوين وأسلبة
اللوحة في 1910 وعرضت تنويعات هذا العمل المحتفي بعري النساء الضوئي لأول مرّة في
هذا المعرض باعتبارها دراسة مستفيضة لعلاقة الجسد بالضوء والنهار والطبيعة والكون..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق