ترجمة: جمال خيري**
Franz von Stuck, Lucifer |
جَلَسَ تُومَاسْ
وَنَظَرَ إِلَى الْبَحْرِ. مَكَثَ لِبَعْضِ الْوَقْتِ دُونَ حَرَكَةٍ، وَكَأَنَّهُ
أَتَى ثَمَّتَ لِيَتَتَبَّعَ حَرَكَاتِ السَّبَّاحِينَ الْآخَرِينَ وَرَغْمَ أَنَّ
السَّدِيمَ مَنَعَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى بَعِيدٍ، فَقَدْ بَقِيَ، بِإِلْحَاحٍ، ثَابِتَ
الْعَيْنَيْنِ عَلَى تِلْكَ الْأَجْسَادِ الَّتِي تَسْبَحُ بِعُسْرٍ. ثُمَّ، مِنْ
جَرَّاءِ مَوْجَةٍ قَوِيَّةٍ بَلَغَتْهُ، نَزَلَ بِدَوْرِهِ مُنْحَدَرَ الرِّمَالِ
وَانْزَلَقَ فِي وَسَطِ اللُّجَّةِ الَّتِي غَمَرَتْهُ لِلتَّوِّ. كَانَ الْبَحْرُ
هَادِئاً وَكَانَ مِنْ عَادَةِ تُومَاسْ أَنْ يَسْبَحَ وَقْتاً طَوِيلاً دُونَ
عَيَاءٍ. لَكِنَّهُ الْيَوْمَ اخْتَارَ مَسَاراً جَدِيداً. كَانَ السَّدِيمُ
يُخْفِي الشَّاطِئَ. كَانَتْ سَحَابَةٌ قَدْ نَزَلَتْ عَلَى الْبَحْرِ وَكَانَ
سَطْحُ الْمَاءِ يُفْتَقَدُ فِي لَمَعَانٍ يَبْدُو وَحْدَهُ وَاقِعِيًّا حَقًّا.
كَانَتِ اللُّجَّةُ تُهَزْهِزُهُ، دُونَ أَنْ تَمْنَحَهُ الْإِحْسَاسَ بِأَنَّهُ
وَسَطَ الْأَمْوَاجِ، وَأَنَّهُ يَتَدَحْرَجُ فِي عَنَاصِرَ يَعْرِفُهَا.
التَّيَقُنُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مُفْتَقَداً، كَانَ يَفْرِضُ حَتَّى عَلَى
مَجْهُودِهِ فِي السِّبَاحَةِ طَابَعَ تَمْرِينٍ تَافِهٍ لاَ يَحْصُلُ مِنْهُ
إِلاَّ عَلَى الْإِحْبَاطِ. رُبَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَمَالَكَ نَفْسَهُ
لِيَطْرُدَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْكَارِ، لَكِنَّ نَظَرَاتِهِ لَمْ تَكُنْ
لِتَتَمَكَّنَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِشَيْءٍ، كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَأَمَّلُ
الْفَرَاغَ بِنِيَّةِ وُجُودِ بَعْضِ مَا يُسْعِفُهُ. عِنْدَئِذٍ هَاجَ الْبَحْرُ
مُثَاراً بِالرِّيحِ. كَانَتِ الْعَاصِفَةُ تُعَكِّرُهُ، وَتُبَعْثِرُهُ فِي
مَنَاطِقَ مَنِيعَةٍ، وَكَانَتِ الْأَعَاصِيرُ تُهَيِّجُ اضْطِرَاباً فِي
السَّمَاءِ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ كَانَ هُنَاكَ صَمْتٌ وَهُدُوءٌ يَدْفَعَانِ
إِلَى الظَّنِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ تَلَفَ. حَاوَلَ تُومَاسْ أَنْ
يَتَخَلَّصَ مِنَ الْمَدِّ التَّفِهِ الَّذِي كَانَ يُدَاهِمُهُ. بَرْدٌ شَدِيدٌ
جِدًّا كَانَ يَشُلُّ ذِرَاعَيْهِ. كَانَ الْمَاءُ يَبْدُو كَدَوَّامَاتٍ. هَلْ
كَانَ فِعْلاً مَاءً؟ تَارَةً كَانَ الزَّبَدُ يَتَطَايَرُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ
كَنُدَفٍ ضَارِبَةٍ إِلَى الْبَيَاضِ، وَتَارَةً كَانَ غِيَابُ الْمَاءِ يُمْسِكُ
بِجَسَدِهِ وَيَجْرِفُهُ بِشِدَّةٍ. تَنَفَّسَ بِبُطْءٍ، وَلِلَحَظَاتٍ اِحْتَفَظَ
فِي فَمِهِ بِالسَّائِلِ الَّذِي كَانَتِ الْأَعَاصِيرُ تَدْفَعُ بِهِ عَلَى
رَأْسِهِ : عُذُوبَةٌ فَاتِرَةٌ، مَشْرُوبٌ لِرَجُلٍ مَحْرُومٍ مِنَ الذَّوْقِ.
ثُمَّ، مِنْ جَرَّاءِ التَّعَبِ، أَوْ لِبَاعِثٍ مَجْهُولٍ، مَنَحَتْهُ
أَطْرَافُهُ الْإِحْسَاسَ نَفْسَهُ بِالْغَرَابَةِ الَّذِي مَنَحَهُ إِيَّاهُ
الْمَاءُ الَّذِي كَانَتْ تَتَدَحْرَجُ فِيهِ. فِي الْوَهْلَةِ الْأُولَى بَدَا
لَهُ هَذَا الْإِحْسَاسُ شِبْهَ مُمْتِعٍ. كَانَ يُلاَحِقُ، سَابِحاً، نَوْعاً
مِنْ حُلُمِ الْيَقَظَةِ كَانَ فِيهِ يَمْتَزِجُ بِالْبَحْرِ. ثَمَالَةُ
الْخُرُوجِ مِنَ الذَّاتِ، الاِنْدِسَاسِ فِي الْفَرَاغِ، الاِنْتِشَارِ فِي
فِكْرِ الْمَاءِ، جَعَلَتْهُ يَنْسَى كُلَّ تَوَعُّكٍ. وَرَغْمَ أَنَّهُ حِينَ
هَذَا الْبَحْرُ الْمِثَالِيُّ الَّذِي كَانَ يَصِيرُهُ بِاسْتِمْرَارٍ وَبِعُمْقٍ
أَصْبَحَ بِدَوْرِهِ الْبَحْرَ الْحَقِيقِيَّ حَيْثُ كَانَ كَغَرِيقٍ، رَغْمَ
ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَأَثِّراً جِدًّا مِثْلَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ :
كَانَ وَبِدُونِ شَكٍّ أَمْراً لاَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبَحَ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ
هُدًى بِجَسَدٍ لاَ يَصْلُحُ لَهُ إِلاَّ لِلتَّفْكِيرِ فَقَطْ بِأَنَّهُ
يَسْبَحُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُحِسُّ كَذَلِكَ بِارْتِيَاحٍ، كَأَنَّهُ وَجَدَ
أَخِيراً حَلاَّ لِهَذِهِ الْوَضْعِيَّةِ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَنْحَصِرُ
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فِي مُوَاصَلَةِ رَحِيلِهِ اللاَّ يَنْتَهِي دُونَ جِسْمٍ،
وَفِي غِيَابِ الْبَحْرِ. لَمْ يَدُمِ الْوَهْمُ. لَزِمَهُ أَنْ يَتَدَحْرَجَ مِنْ
عَلَى جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، كَمَرْكَبٍ مُنْحَرِفٍ فِي الْمَاءِ الَّذِي
يَمْنَحُهُ جَسَداً كَيْ يَسْبَحَ. مَا الْمَخْرَجُ؟ هَلْ أَنْ يُقَاوِمَ كَيْ لاَ
يُجْرَفَ مَعَ الْمَوْجِ الَّذِي هُوَ ذِرَاعُهُ؟ هَلْ أَنْ تَغْمُرَهُ
الْمِيَاهُ؟ هَلْ أَنْ يَغْرَقَ بِمَرَارَةٍ فِي ذَاتِهِ؟ كَانَ قَدْ آنَ حَقًّا
أَوَانُ التَّوَقُّفِ، وَلَكِنْ بَقِيَ لَهُ ثُمَّتَ أَمَلٌ، فَاسْتَمَرَّ فِي
السِّبَاحَةِ كَمَا لَوْ أَنَّهُ اكْتَشَفَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ الْمُرَمَّمَةِ
إِمْكَانِيَةً جَدِيدَةً. كَانَ يَسْبَحُ، مِسْخاً دُونَ زَعَانِفَ. تَحْتَ
الْمِجْهَرِ الْكَبِيرِ، كَانَ يَسْتَحِيلُ كَوْمَةً شُجَاعَةً مِنَ الْأَهْدَابِ
وَالاِهْتِزَازَاتِ. أَخَذَتِ الْمُحَاوَلَةُ صِفَةً شَاذَّةً تَمَاماً، حِينَ
حَاوَلَ أَنْ يَنْزَلِقَ مِنْ قَطْرَةِ الْمَاءِ إِلَى مِنْطَقَةٍ غَيْرِ
وَاضِحَةٍ، وَرَغْمَ ذَلِكَ مُحَدَّدَةٌ، تُشْبِهُ الْحَرَمَ شَيْئاً مَا،
تُنَاسِبُهُ جِدًّا إِلَى دَرَجَةٍ يَكْفِيهِ مَعَهَا أَنْ يُوجَدَ فِيهَا،
لِيَكُونَ؛ كَانَتْ كَحُفْرَةٍ خَيَالِيَةٍ حَيْثُ كَانَ يَنْدَسُّ لِأَنَّهُ
قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا كَانَ أَثَرُ بَصَمَاتِهِ عَلَيْهَا. قَامَ إِذَنْ
بِمَجْهُودٍ أَخِيرٍ لِوُلُوجِهَا بِكَامِلِهِ. كَانَ الْأَمْرُ سَهْلاً
لِلْغَايَةِ، لَمْ يَعْتَرِضْهُ أَيُّ حَاجِزٍ، فَتَلاَقَى بِنَفْسِهِ،
وَاخْتَلَطَ بِذَاتِهِ بِإِقَامَتِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الَّذِي لاَ أَحَدَ
سِوَاهُ يُمْكِنُهُ دُخُولُهُ.
أَخِيراً عَادَ.
بِسُهُولَةٍ تَوَصَّلَ إِلَى طَرِيقِ الْعَوْدَةِ حَيْثُ وَجَدَ مَوْطِئَ قَدَمٍ
فِي الْمَاءِ فِي مَكَانٍ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ السَّبَّاحُونَ لِلْغَطْسِ. كَانَ
الْعَيَاءُ قَدْ زَالَ عَنْهُ. كَانَ يَحْتَفِظُ فِي أُذُنَيْهِ بِانْطِبَاعِ
طَنِينٍ وَالْتِهَابٍ فِي الْعَيْنَيْنِ، مِثْلَمَا يَكُونُ مُنْتَظَراً بَعْدَ
الْمُكُوثِ طَوِيلاً فِي الْمَاءِ الْمَالِحِ. أَدْرَكَ ذَلِكَ، وَهْوَ يَلْتَفِتُ
إِلَى صَفْحَةِ الْمَاءِ اللاَّ مُنْتَهِيَّةِ الَّتِي تَنْعَكِسُ عَلَيْهَا
الشَّمْسُ، مُحَاوِلاً التَّعَرُّفَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَ قَدِ ابْتَعَدَ
فِيهَا. فَكَانَ ثَمَّتَ ضَبَابٌ حَقِيقِيٌّ أَمَامَ نَاظِرِهِ، وَكَانَ يُمَيِّزُ
كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْفَرَاغِ الْمُشَوَّشِ الَّذِي تَخْتَرِقُهُ نَظَرَاتُهُ
بِانْفِعَالٍ. مِنْ فَرْطِ مَا ارْتَقَبَ، وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى رَجُلٍ كَانَ
يَسْبَحُ بَعِيداً، شِبْهَ تَائِهٍ تَحْتَ الْأُفُقِ. عَبْرَ مِثْلِ هَذِهِ
الْمَسَافَةِ، كَانَ السَّبَّاحُ يُفْلِتُ مِنْهُ بِاسْتِمْرَارٍ. كَانَ يَرَاهُ،
ثُمَّ لاَ يَرَاهُ وَرَغْمَ ذَلِكَ كَانَ يُحِسُّ بِأَنَّهُ يُتَابِعُ كُلَّ
تَطَوُّرَاتِهِ : لَمْ يَكُنْ فَقَطْ يَرَاهُ جَيِّداً، وَلَكِنْ كَانَ
يَتَقَرَّبُ مِنْهُ بِطَرِيقَةٍ حَمِيمِيَّةٍ لِلْغَايَةِ، لاَ يُمْكِنُ أَنْ
يَتَقَرَّبَ مِنْهُ أَكْثَرَ عَبْرَ اتِّصَالٍ آخَرَ غَيْرِهَا. مَكَثَ طَوِيلاً
يَنْظُرُ وَيَنْتَظِرُ. كَانَ فِي تَأَمُّلِهِ هَذَا شَيْءٌ مَا مُؤْلِمٌ يُشْبِهُ
تَجَلِّي حُرِّيَةٍ شَاسِعَةٍ جِدًّا، حُرِّيَةٍ مُحْرَزَةٍ عَبْرَ قَطْعِ كُلِّ
الْأَوَاصِرِ. تَعَكَّرَ وَجْهُهُ وَاتَّخَذَ هَيْأَةَ الْمُتَخَلَّى عَنْه.
II
إِلاَّ أَنَّهُ
قَرَّرَ أَنْ يُدِيرَ ظَهْرَهُ لِلْبَحْرِ وَوَلَجَ غَابَةً صَغِيرَةً حَيْثُ
اسْتَلْقَى بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ بِبَعْضِ الْخُطُوَاتِ. كَانَ الْنَّهَارُ
يَمِيلُ إِلَى آخِرِهِ؛ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ نُورٌ تَقْرِيباً، وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ
بَعْضِ تَفَاصِيلِ الْمَنْظَرِ الطَّبِيعِيِّ بِوُضُوحٍ كَانَتْ مُمْكِنَةً،
وَبِخَاصَّةٍ، الرَّابِيَةَ الَّتِي تُحَدِّدُ الْأُفُقَ وَتُشْرِقُ، حُرَّةً
غَيْرَ مُبَالِيِةٍ. الشَّيْءُ الَّذِي كَانَ يُقْلِقُ تُومَاسْ، هُوَ أَنَّهُ
كَانَ مُسْتَلْقِيًّا هُنَاكَ عَلَى الْعُشْبِ رَغْبَةً فِي الْمُكُوثِ طَوِيلاً،
رَغْمَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ كَانَ مَحْظُوراً عَلَيْهِ. وَبِمَا أَنَّ اللَّيْلَ
كَانَ يَتَقَدَّمُ، فَقَدْ أَرَادَ تُومَاسْ أَنْ يَنْتَصِبَ، وَبِيَدَيْهِ
الاِثْنَتَيْنِ مُرْتَكِزَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ، تَوَكَّأَ بِرُكْبَةٍ
عَلَيْهِمَا، فِيمَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْأُخْرَى تَتَأَرْجَحُ؛ ثُمَّ قَامَ
بِحَرَكَةٍ مُفَاجِئَةٍ وَنَجَحَ فِي أَنْ يَسْتَقِيمَ تَمَاماً. كَانَ إِذَنْ
وَاقِفاً. فِي الْحَقِيقَةِ، كَانَتْ حَالَتُهُ تِلْكَ تَفْصَحُ عَنْ بَعْضِ
التَّرَدُّدِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الشَّكِّ فِي تَصَرُّفَاتِهِ. لِذَلِكَ،
رَغْمَ أَنَّ عَيْنَيْهِ كَانَتَا مُغْمَضَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَبْدُو
عَلَيْهِ أَنَّهُ تَخَلَّى عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَتَمَةِ، بَلِ الْعَكْسُ
بِالْأَحْرَى. أَيْضاً، حِينَ أَخَذَ يَمْشِي، كَانَ يُمْكِنُ الظَّنُّ أَنْ
لَيْسَتْ رِجْلاَهُ هِمَا اللَّتَانِ كَانَتَا تَجْعَلَانِهِ يَتَقَدَّمُ، بَلْ
رَغْبَتُهُ فِي عَدَمِ الْمَشْيِ. نَزَلَ فِي مَا يُشْبِهُ الْقَبْوَ الَّذِي كَانَ
قَدْ ظَنَّهُ قَبْلاً وَاسِعاً بِمَا يَكْفِي، وَلَكِنْ بِسُرْعَةٍ بَانَ لَهُ
أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا : أَمَامَهُ، خَلْفَهُ، فَوْقَهُ، حَيْثُمَا مَدَّ
يَدَيْهِ، كَانَ يَصْطَدِمُ بِعُنْفٍ بِجِدَارٍ صَلْبٍ كَحَائِطِ بِنَاءٍ؛ مِنْ
كُلِّ الْجِهَاتِ كَانَ الطَّرِيقُ مَسْدُوداً عَلَيْهِ، فِي كُلِّ جَانِبٍ
حَائِطٌ يَتَعَذَّرُ عُبُورُهُ، وَهَذَا الْحَائِطُ لَمْ يَكُنْ أَكْبَرَ حَاجِزٍ،
كَانَ لاَبُدَّ كَذَلِكَ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى عَزِيمَتِهِ الَّتِي كَانَتْ
مُصَمِّمَةً بِشَرَاسَةٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى النَّومِ هُنَاكَ، فِي
سِلْبِيَّةٍ أَشْبَهَ بِالْمَوْتِ. جُنُونٌ إِذَنْ، فِي هَذِهِ الْحَيْرَةِ،
مُلْتَمِساً طَرِيقَهُ، مُتَحَسِّساً حُدُودَ الْحُفْرَةِ الْمُقَوَّسَةِ،
أَلْصَقَ كُلَّ جَسَدِهِ بِالْحَاجِزِ وَمَكَثَ يَنْتَظِرُ. الذِّي كَانَ
يَتَحَكَّمُ فِيهِ، هُو الْإِحْسَاسُ بِأَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى الْأَمَامِ
بِرَفْضِهِ لِلتَّقَدُّمِ. لِذَلكَ لَمْ يَكُنْ مُنْدَهِشاً كَثِيراً، وَقَلَقُهُ
يُرِيهِ الْمُسْتَقْبَلَ بِوُضُوحٍ، حِينَ رَأَى نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
مُنْقَاداً بَعِيداً لِبَعْضِ الْخُطَى. بَعْضُ الْخُطَى، كَانَ أَمْراً لاَ
يُصَدَّقُ. تَقَدُّمُهُ كَانَ بَيِّناً أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ وَاقِعِيًّا،
لِأَنَّ الْمَكَانَ الْجَدِيدَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزاً عَنِ الْقَدِيمِ، لاَقَى
فِيهِ الصُّعُوبَاتِ نفسها، وَكَانَ
بِشَكْلٍ آخَرَ الْمَكَانِ نفسه الَّذِي
ابْتَعَدَ مِنْهُ خَوْفاً مِنْ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْهُ. فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ،
قَامَ تُومَاسْ بِفِعْلٍ مُتَهَوِّرٍ إِذْ أَلْقَى بِنَظْرَةٍ حَوْلَهُ. كَانَ
اللَّيْلُ أَكْثَفَ ظَلاَماً وَأَشَدَّ قَسْوَةً مِمَّا كَانَ يُنْتَظَرُ. كَانَتِ
الْعَتَمَةُ تَغْمُرُ كُلَّ شَيْءٍ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ أَمَلٍ فِي
اجْتِيَازِ الظِّلاَلِ، وَلَكِنَّ بُلُوغَ الْوَاقِعِ فِيهَا كَانَ عَبْرَ
عَلاَقَةٍ حَمِيمِيَّتُهَا مُقْلِقَةٌ. أُولَى مُلاَحَظَاتِهِ كَانَتْ أَنَّهُ
مَازَالَ يَسْتَطِيعُ اسْتِخْدَامَ جَسَدِهِ، وَبِصِفَةٍ خَاصَّةٍ عَيْنَيْهِ؛
وَهَذَا لَيْسَ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى شَيْئاً، وَلَكِنْ لِأَنَّ مَا كَانَ
يَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ كَانَ يَجْعَلُهُ فِي عَلاَقَةٍ مَعَ
كُتْلَةٍ لَيْلِيَّةٍ كَانَ يُدْرِكُهَا بِشَكْلٍ غَامِضٍ وَكَأَنَّهَا هِيَ هُو
فِيهَا يَنْغَمِسُ. طَبْعاً، لَمْ يُعْرِبْ عَنْ هَذِهِ الْمُلاَحَظَةِ إِلاَّ
كَفَرَضِيَّةٍ، كَرُؤْيَةٍ كَانَتْ عَمَلِيَّةً، لَكِنَّهُ مَا كَانَ لِيَلْجَأَ
إِلَيْهَا إِلاَّ مُضْطَرًّا بِضَرُورَةِ فَكِّ ظُرُوفٍ جَدِيدَةٍ. بِمَا أَنَّهُ
لَمْ تَكُنْ لَدَيْهِ أَيُّ وَسِيلَةٍ لِقِيَّاسِ الْوَقْتِ، فَقَدِ انْتَظَرَ
عَلَى الْأَرْجَحِ سَاعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَتَقَبَّلَ كَيْفِيَةَ النَّظَرِ هَذِهِ،
وَلَكِنْ، بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، حَدَثَ وَكَأَنَّ الْخَوْفَ جَرَفَهُ في
الْحَالِ، وَأَنَّهُ مِنْ جَرَّاءِ إِحْسَاسٍ بِالْخَجَلِ رَفَعَ رَأْسَهُ
مُتَقَبِّلاً الْفِكْرَةَ الَّتِي لاَمَسَهَا : كَانَ خَارِجَهُ شَيْءٌ مَا
شَبِيهٌ بِفِكْرِهِ الْخَاصِّ بِإِمْكَانِ نَظَرِهِ أَو يَدِهِ لَمْسَهُ. حُلُمُ
يَقَظَةٍ مُثِيرٌ لِلِاشْمِئْزَازِ. سَرِيعاً، بَدَا لَهُ اللَّيْلُ أَكْثَرَ
ظَلاَماً، وَأَكْثَرَ فَظَاعَةً مِنْ أَيِّ لَيْلٍ آخَرَ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ
حَقًّا مِنْ جُرْحِ الْفِكْرَةِ الَّتِي لَمْ تَعُدْ يُفَّكَّرُ فِيهَا،
الْفِكْرَةِ الْمَأْخُوذَةِ بِسُخْرِيَّةٍ كَمَوْضُوعٍ لِلتَّفْكِيرِ مِنْ طَرَفِ
شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْفِكْرِ. كَانَ اللَّيْلُ هُوَ اللَّيْلُ نَفْسُهُ. كَانَتْ
تُغْرِقُهُ صُوَرٌ تُكَوِّنُ عَتَمَتَهُ. لَمْ يَكُنْ تُومَاسْ يَرَى شَيْئاً،
وَلاَ كَانَ مُحْبَطاً بِالْمَرَّةِ، إِذْ كَانَ يَجْعَلُ مِنْ غِيَّابِ
الرُّؤْيَةِ هَذَا نُقْطَةَ إِشْرَافِ نَظَرِهِ. كَانَتْ عَيْنُهُ، غَيْرُ
الْمُجْدِيَّةِ لِلنَّظَرِ، تَأْخُذُ أَبْعَاداً خَارِقَةً، كَانَتْ تَتَّسِعُ
بِطَرِيقَةٍ مُفْرِطَةٍ، وَمُتَمَدِّدَةً عَلَى الْأُفُقِ، كَانَتْ تَتْرُكُ
اللَّيْلَ يَلِجُ مَرْكَزَهَا لِتَتَلَقَّى النَّهَارَ. بِهَذَا الْفَرَاغِ، كَانَ
النَّظَرُ إِذَنْ وَمَوْضُوعُ النَّظَرِ يَتَدَاخَلاَنِ. لَمْ تَكُنْ هَذِهِ
الْعَيْنُ الَّتِي لاَ تَرَى شَيْئاً تُدْرِكُ شَيْئاً مَا فَقَطْ، وَلَكِنَّهَا
كَانَتْ تُدْرِكُ سَبَبَ نَظَرِهَا كَذَلِكَ. كَانَتْ تَرَى كَمَوْضُوعٍ
لِلنَّظَرِ مَا كَانَ يَجْعَلُهَا لاَ تَرَى. فِيهَا، كَانَ نَظَرُهَا نَفْسُهُ يَدْخُلُ
فِي شَكْلِ صُورَةٍ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يُعْتَبَرُ فِيهِ النَّظَرُ
كَمَوْتٍ لِكُلِّ الصُّوَرِ. نَتَجَ عَنْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِتُومَاسْ
انْشِغَالاَتٌ جَدِيدَةٌ. لَمْ تَعُدْ تَبْدُو لَهُ عُزْلَتُهُ تَامَّةً،
وَانْتَابَهُ حَتَّى الْإِحْسَاسُ بِأَنَّ شَيْئاً وَاقِعِيًّا كَانَ قَدْ
صَدَمَهُ وَحَاوَلَ الاِنْسِلاَلَ فِيهِ. رُبَّمَا كَانَ بِمُسْتَطَاعِهِ أَنْ
يُؤَوِّلَ هَذَا الْإِحْسَاسَ بِشَكْلٍ مُخْتَلِفٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ لاَبُدَّ
أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْأَسْوَأِ. ذَرِيعَتُهُ هِيَ أَنَّ الاِنْطِبَاعَ كَانَ
شِدَّ بَيِّنٍ وَشِدَّ مُرْهِقٍ إِلَى دَرَجَةٍ كَانَ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا عَدَمُ
الرُّضُوخِ. وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ هَذَا الاِنْطِبَاعِ،
فَقَدْ كَانَ سَيُجْهَدُ فِي عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِشَيْءٍ مُتَطَرِّفٍ وَعَنِيفٍ،
لِأَنَّ جِسْماً غَرِيباً بِكُلِّ تَأْكِيدٍ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي بُؤْبُؤِهِ
وَكَانَ يَجْهَدُ فِي التَّوَغُّلِ. كَانَ شَاذًّا، مُزْعِجاً تَمَاماً، مُزْعِجاً
جِدًّا وَلاَسِيَّمَا أَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِجِسْمٍ صَغِيرٍ،
وَلَكِنْ بِأَشْجَارٍ بِأَكْمَلِهَا، بِكُلِّ الْغَابَةِ مُرْتَعِشَةً مَازَالَتْ
وَمُفْعَمَةً بِالْحَيَاةِ. كَانَ يَشْعُرُ بِهَذَا كَضُعْفٍ يُفْقِدُهُ
مِصْدَاقِيَتَهُ. لَمْ يُعِرْ أَيَّ اهْتِمَامٍ لِتَفَاصِيلِ الْأَحْدَاثِ.
رُبَّمَا تَسَلَّلَ رَجُلٌ مِنْ
الْفَجْوَةِ ذاتها، لَمْ يَكُنْ بِاسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُؤَكِّدَ ذَلِكَ
أَوْ أَنْ يُنْكِرَهُ. كَانَ يَبْدُو لَهُ أَنَّ الْأَمْوَاجَ تَقْتَحِمُ هَذَا
النَّوْعَ مِنَ الْهَاوِيَّةِ التَّي كَانَهَا. لَمْ يَكُنْ كُلُّ هَذَا يُشْغِلُ
بَالَهُ إِلاَّ قَلِيلاً. لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ إِلاَّ بِيَدَيْهِ،
مُنْشَغِلَتَيْنِ بِاسْتِكْشَافِ الْكَائِنَاتِ الْمُتَمَازِجَةِ بِهِ
وَبِتَمْيِيزِ سِمَاتِهَا بِالْخُصُوصِ، كَلْبٌ مُمَثَّلٌ بِأُذُنٍ، عُصْفُورٌ
يَقُومُ مَقَامَ الشَّجَرَةِ الَّتِي يُغَرِّدُ عَلَيْهَا. بِفَضْلِ هَذِهِ
الْكَائِنَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَقُومُ بِأَفْعَالٍ تَنْفَلِتُ عَنْ أَيِّ
تَأْوِيلٍ، كَانَتْ عِمَارَاتٌ، مُدُنٌ كَامِلَةٌ تُبْنَى، مُدُنٌ حَقِيقِيَّةٌ
مُكَوَّنَةٌ مِنَ الْفَرَاغِ وَآلاَفِ الْأَحْجَارِ الْمُتَرَاكِمَةِ،
مَخْلُوقَاتٌ مُتَقَلِّبَةٌ فِي الدِّمَاءِ وأَحْيَاناً مُمَزِّقَةٌ لِلشَّرَايِينِ،
كَانَتْ تَلْعَبُ دَوْرَ مَا كَانَ يُسَمِّيهِ تُومَاسْ قَدِيماً أَفْكَاراً
وَانْفِعَالاَتٍ. هَكَذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَلَمْ يَكُنْ يَنْفَصِلُ
عَنْ جُثَّتِهِ أَبَداً. كَانَتِ الرَّغْبَةُ الْجُثَّةَ نَفْسَهَا، الَّتِي
كَانَتْ تَفْتَحُ عَيْنَيْهَا، وَمُدْرِكَةً بِأَنَّهَا مَيِّتَةٌ، كَانَتْ
تَصْعَدُ بِرُعُونَةٍ حَتَّى الْفَمِ كَحَيَوَانٍ ابْتُلِعَ حَيًّا. كَانَتِ
الْأَحَاسِيسُ تَسْكُنُهُ، ثُمَّ تَفْتَرِسُهُ. كَانَ مُعْتَصَراً، فِي كُلِّ
قِطْعَةٍ مِنْ لَحْمِهِ، بِأَلْفِ يَدٍ لَمْ تَكُنْ سِوَى يَدِهِ. فَزَعٌ قَاتِلٌ
كَانَ يَنْقُرُ عَلَى قَلْبِهِ. حَوْلَ جَسَدِهِ، كَانَ يَعْلَمُ بِأَنَّ
فِكْرَتَهُ، مُمْتَزِجَةً بِاللَّيْلِ، كَانَتْ تَسْهَرُ. كَانَ يَعْلَمُ، عِلْماً
رَهِيباً، بِأَنَّهَا هِيَ أَيْضاً كَانَتْ تَبْحَثُ عَنْ مَنْفَذٍ لِتَدْخُلَ
فِيهِ. جَنْبَ شَفَتَيْهِ، فِي فَمِهِ، كَانَتْ تُجْهِدُ نَفْسَهَا سَعْياً إِلَى
وَحْدَةٍ فَظِيعَةٍ. تَحْتَ الْجَفْنَيْنِ، كَانَتْ تَخْلُقُ نَظَراً ضَرُورِيًّا.
وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ كَانَتْ تُتْلِفُ بِعُنْفٍ شَدِيدٍ هَذَا الْوَجْهَ
الَّذِي كَانَتْ تَضُمُّهُ. مُدُنٌ بَاهِرَةٌ، حَوَاضِرُ خَرِبَةٌ اخْتَفَتْ.
الْأَحْجَارُ رُمِيَتْ إِلَى الْخَارِجِ. نُقِّلَتِ الْأَشْجَارُ. حُمِلَتِ
الْأَيَادِي وَالْجُثَثُ. وَحْدَهُ، جَسَدُ تُومَاسْ بَقِيَ دُونَ مَعْنَى.
وَالْفِكْرَةُ، الَّتِي دَخَلَتْهُ، تَبَادَلَتِ التَّوَاصُلَ مَعَ الْفَرَاغِ.
III
عَادَ إِلَى الْفُنْدُقِ
لِلْعَشَاءِ. بِدُونِ شَكٍّ كَانَ بِمُسْتَطَاعِهِ أَخْذَ مَكَانِهِ الاِعْتِيَادِي
عَلَى الْمَائِدَةِ الْكَبِيرَةِ، ولَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ وَابْتَعَدَ. لَمْ
يَكُنِ الْأَكْلُ، فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، دُونَ أَهَمِّيَةٍ. مِنْ جِهَةٍ، كَانَ
الْأَمْرُ مُغْرِيًّا، لِأَنَّهُ كَانَ يَبْدُو هَكَذَا حُرًّا مَازَالَ لِيَعُودَ
أَدْرَاجَهُ؛ وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كَانَ الْأَمْرُ سَيِّئاً، لِأَنَّهُ كَانَ
مُوشِكاً عَلَى اسْتِرْدَادِ حُرِّيَتِهِ عَلَى أَسَاسٍ ضَيِّقٍ. فَفَضَّلَ إِذَنْ
تَبَنِّي أُسْلُوبٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ. وَتَقَدَّمَ بِبَعْضِ الْخُطَى لِيَرَى كَيْفَ
سَيَتَقَبَّلُ الْآخَرُونَ سُلُوكَهُ الْجَدِيدَ. فِي الْبَدْءِ أَصَاخَ السَّمْعَ؛
كَانَتْ هُنَاكَ ضَجَّةٌ غَامِضَةٌ، بَذِيئَةٌ، أَحْيَاناً تَرْتَفِعُ بِقُوَّةٍ، وَأَحْيَاناً
تَهْدَأُ وَتُصْبِحُ غَيْرَ مَحْسُوسَةٍ. بِالتَّأْكِيدِ، لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَجَالٌ
لِلْخَطَأِ، كَانَتْ ضَجَّةَ مُحَادَثَةٍ، وَفَضْلاً عَنْ ذَلِكَ، وَحِينَ كَانَ الْكَلاَمُ
يَخْفُتُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَرَّفُ عَلَى كَلِمَاتٍ بَسِيطَةٍ جِدًّا وَكَأَنَّهَا
اخْتِيرَتْ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِهَا بِسُهُولَةٍ. وَلِأَنَّ الْكَلِمَاتِ لَمْ
تُرْضِهِ، فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَجْوِبَ الْأَشْخَاصَ الَّذِينَ يُوَاجِهُونَهُ
فَشَقَّ طَرِيقَهُ نَحْوَ الْمَائِدَةِ : وَبِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَهَا، مَكَثَ أَمَامَهَا
دُونَ أَن يَنْبِسَ بِبِنْتِ شَفَةٍ، مُتَفَرِّجاً عَلَى أُولَئِكَ النَّاسِ الَّذِينَ
كَانُوا يَبْدُونَ لَهُ، كُلُّهُمْ، ذَوِي أَهَمِّيَةٍ. أُومِئَ إِلَيْهِ بِالْجُلُوسِ.
تَجَاهَلَ تِلْكَ الدَّعْوَةَ. نُودِيَ عَلَيْهِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ وَاسْتَدَارَتِ
امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تَسْأَلُهُ إِنْ كَانَ قَدْ سَبَحَ هَذَا الْعَصْرَ. رَدَّ تُومَاسْ
بِالْإِيجَابِ. عَمَّ الصَّمْتُ؛ أَضْحَتِ الْمُقَابَلَةُ مُمْكِنَةً؟ غَيْرَ أَنَّ
مَا حَصَلَ وَقَالَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُرْضِيَ كَثِيراً، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ نَظَرَتْ
إِلَيْهِ بِمَلْمَحِ لَوْمٍ وَقَامَتْ بِبُطْءٍ، كَمَنْ لَمْ يُنْهِ مُهِمَّتَهُ، يَلْزَمُ
نَدَماً لاَ يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ لِيَمْنَعَهَا بِانْصِرَافِهَا
مِنْ تَرْكِ انْطِبَاعٍ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَتَخَلَّى بِكُلِّ سُرُورٍ عَنْ دَوْرِهَا.
دُونَ أَنْ يُفَكِّرَ، أَخَذَ تُومَاسْ الْمَكَانَ الشَّاغِرَ وَ، بِمُجَرَّدِ أَنْ
جَلَسَ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي بَدَا لَهُ مُنْخَفِضاً وَلَكِنْ مُرِيحاً، لَمْ
يُفَكِّرْ أَبَداً إِلاَّ فِي أَنْ يُقَدَّمَ لَهُ الطَّعَامُ الَّذِي رَفَضَهُ مِنْ
قَبْلُ. أَلَمْ يَكُ قَدْ فَاتَ الْأَوَانُ؟ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يَسْتَشِيرَ الْأَشْخَاصَ
الْحَاضِرِينَ فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ. مِنَ الْوَاضِحِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
يَبْدُونَ نَحْوَهُ مُعَادِينَ جِهَاراً، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ كَذَلِكَ أَنْ يَعْتَمِدَ
عَلَى لُطْفِهِمُ الَّذِي بِدُونِهِ لَمْ يَكُنْ بِمَقْدُورِهِ أَنْ يَبْقَى وَلَوْ
ثَانِيَّةً وَاحِدَةً فِي الْقَاعَةِ؛ وَلَكِنْ كَانَ فِي سُلُوكِهِمْ كَذَلِكَ شَيْءٌ
مِنَ الْمَكْرِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَسْمَحُ بِالثِّقَةِ فِيهِمْ، وَلاَ حَتَّى بِبِنَاءِ
عَلاَقَاتٍ عَادِيَّةٍ مَعَهُمْ. حِينَ لاَحَظَ جَارَتَهُ أُصِيبَ تُومَاسْ بِالذُّهُولِ:
كَانَتْ فَتَاةً طَوِيلَةَ الْقَامَةِ شَقْرَاءَ، بِجَمَالٍ كَانَ يَتَفَتَّحُ شَيْئاً
فَشَيْئاً وَهْوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا. كَانَ يَبْدُو أَنَّهَا أَحَسَّتْ بِلَذَّةٍ
حَادَّةٍ حِينَ أَتَى يَجْلِسُ بِجَانِبِهَا، وَلَكِنَّهَا الْآنَ كَانَتْ تَجْلِسُ
فِي وَضْعٍ يَعْتَرِيهِ نَوْعٌ مِنَ التَّصَلُّبِ، وَعَزْمٌ صِبْيَانِيٌّ عَلَى أَنْ
تَبْقَى عَلَى مَبْعَدَةٍ، بَلْ غَرِيبَةً جِدًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَرَّبُ
إِلَيْهَا لِيَنَالَ إِيمَاءَةَ تَشْجِيعٍ. اسْتَمَرَّ إِذَنْ فِي إِمْعَانِ النَّظَرِ
فِيهَا، لِأَنَّ كُلَّ شَخْصِهَا، زَاهِيَّةً بِنُورٍ رَائِعٍ، كَانَ يَجْذِبُهُ. حِينَ
سَمِعَ أَحَدَهُمْ يُنَادِيهَا : آنْ (بِصَوْتٍ حَادٍّ جِدًّا)، حِينَ رَآهَا، فِي
الْحِينِ، تَرْفَعُ رَأْسَهَا، مُسْتَعِدَّةً لِلْإِجَابَةِ، قَرَّرَ أَنْ يَتَصَرَّفَ،
وَبِكُلِّ قِوَاهُ، ضَرَبَ عَلَى الْمَائِدَةِ. أَخْطَأَ فِي الْخُطَّةِ، لَمْ يَكُنْ
مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ. بَادِرَةٌ غَيْرُ فَالِحَةٍ : وَالنَّتِيجَةُ
لَمْ تَتَأَخَّرْ. كُلُّ وَاحِدٍ، كَسَاخِطٍ عَلَى مُخَالَفَةٍ لاَ يُمْكِنُ احْتِمَالُهَا
إِلاَّ بِتَجَاهُلِهَا، انْغَلَقَ دَاخِلَ تَحَفُّظٍ لاَ شَيْءَ كَانَ مُمْكِناً مَعَهُ.
مَرَّتْ سَاعَاتٌ بَعْدَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تُوَلِّدَ أَدْنَى أَمَلٍ، وَأَكْبَرُ بَرَاهِينِ
الْمُطَاوَعَةِ كَانَ مَآلُهُ الْفَشَلُ مِثْلُ كُلِّ مُحَاوَلاَتِ التَّمَرُّدِ. كَانَ
الشَّوْطُ يَبْدُو ضَائِعاً. عِنْدَئِذٍ، لِيَسْتَعْجِلَ الْأُمُورَ، أَخَذَ تُومَاسْ
يَتَفَرَّسُ فِي وُجُوهِهِمْ كُلِّهِمْ، حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْهُ،
حَتَّى الَّذِينَ كَانُوا، حِينَ تَلْتَقِي نَظَرَاتُهُمْ بِنَظَرَاتِهِ، يُرَكِّزُونَ
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُعْتَادِ. لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُسْتَعِدًّا
لِيَتَحَمَّلَ نَظَرَاتِهِ تِلْكَ الْفَارِغَةَ، الْقَاسِيَّةَ، الَّتِي تُطَالِبُ
بِمَا لاَ يُعْلَمُ وَالَّتِي تَتِيهُ دُونَمَا أَيِّ تَحَكُّمٍ، وَلَكِنَّ جَارَتَهُ
اسْتَاءَتْ مِنْهُ بِشَكْلٍ خَاصٍّ: نَهَضَتْ، أَصْلَحَتْ تَسْرِيحَةَ شَعْرِهَا، مَسَحَتْ
وَجْهَهَا وَتَهَيَّأَتْ لِمُغَادَرَةِ الْمَائِدَةِ فِي صَمْتٍ. لَكَمْ كَانَتْ حَرَكَاتُهَا
مُتْعَبَةً! قَبْلَ قَلِيلٍ، كَانَ الضَّوْءُ الْغَامِرُ لِوَجْهِهَا، والانْعِكَاسُ
الْمُضيءُ لِفُسْتَانِهَا كَانَا يَجْعَلاَنِ حُضُورَهَا مُسَلِّياً لِلْغَايَةِ، وَالْآنَ
أَخَذَ هَذَا الْأَلَقُ يَتَلاَشَى. لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ غَيْرُ كَائِنٍ تَبْدُو هَشَاشَتُهُ
فِي جَمَالِهِ الذَّابِلِ، وَيَفْقِدُ حَتَّى كُلَّ حَقِيقَتِهِ، وَكَأَنَّ حُدُودَ
جَسَدِهِ لَمْ تَكُنْ مَرْسُومَةً بِالضَّوْءِ، وَلَكِنْ بِفُسْفُورِيَّةٍ مُتَفَشِّيَةٍ،
مُنْبَعِثَةٍ، قَدْ يُخَالُ، مِنَ الْعِظَامِ. لاَ تَشْجِيعَ كَانَ يُنْتَظَرُ مِنْهَا
بِالْمَرَّةِ. الْإِصْرَارُ فِي تَأَمًّلِهَا بِابْتِذَالٍ، لَمْ يَكُنْ يُمَكِّنُ
إلاَّ مِنَ الْغَرَقِ فِي إِحْسَاسٍ بِالْعُزْلَةِ، حَيْثُ إِلَى أَبْعَدَ مَا كُنَّا
نُرِيدُ الْمُضِيَّ كُنَّا سَنَضِيعُ فِيهِ وَنَسْتَمِرُّ فِي الضَّيَاعِ. رَغْمَ ذَلِكَ
رَفَضَ تُومَاسْ أَنْ يَقْتَنِعَ بِانْطِبَاعَاتٍ بَسِيطَةٍ. الْتَفَتَ قَصْداً إِلَى
الْفَتَاةِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَاصِلِ لَمْ تُفَارِقْهَا عَيْنَاهُ. حَوْلَهُ، نَهَضَ
كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ كُرْسِيِّهِ فِي فَوْضًى وَصَخَبٍ بَشِعَيْنِ. نَهَضَ، هُوَ الْآخَرُ،
وَ، فِي الصَّالَةِ، الَّتِي كَانَتِ الْآنَ غَارِقَةً فِي الضَّوْءِ الْخَافِتِ، قَاسَ
بِالنَّظَرِ الْمَسَافَةَ التِّي كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُرَهَا لِيَصِلَ إِلَى الْبَابِ.
فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، أَضَاءَ الْمَكَانُ، أَشَعَّتِ الْمَصَابِيحُ الْكَهْرَبَائِيَّةُ،
وَأَنَارَتِ الْبَهْوَ، وَسَطَعَتْ فِي الْخَارِجِ حَيْثُ كَانَ يَبْدُو كَمَا لَوْ
كُنَّا نَلِجُ كَثَافَةً دَافِئَةً وَنَاعِمَةً. فِي اللَّحْظَةِ نفسها، نَادَتْهُ
الْفَتَاةُ مِنَ الْخَارِجِ بِصَوْتٍ عَازِمٍ، مُرْتَفِعٍ جِدًّا تَقْرِيباً، يَتَرَدَّدُ
صَدَاهُ بِشَكْلٍ قَسْرِيٍّ، دُونَ أَنْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نَتَبَيَّنَ إِنْ كَانَتْ
قُوَّتُهُ تَأتِي مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ يَنْقُلُهُ أَوْ فَقَطْ مِنَ الصَّوْتِ
الَّذِي يَأْخُذُ الْأَمْرَ بِجِدِّيَةٍ قُصْوَى. كَانَ أَوَّلَ مَا قَامَ بِهِ تُومَاسْ،
الَّذِي كَانَ حَسَّاساً كَثِيراً تِجَاهَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، هُوَّ الاِمْتِثَالُ
بِالتَّسَرُّعِ إِلَىَ الْفَضَاءِ الْفَارِغِ. ثُمَّ، بَعْدَ أَنْ غَطَّى الصَّمْتُ
النِّدَاءَ، لَمْ يَكُنْ مُتَيَقِّناً مِثْلَمَا كَانَ بِأَنَّهُ سَمِعَ حَقًّا اسْمَهُ
واكْتَفَى بِالْإِصْغَاءِ آمِلاً أَنْ يُنَادَى مِنْ جَدِيدٍ. وَهْوَ يَسْتَمِعُ. فَكَّرَ
فِي ابْتِعَادِ كُلِّ هَؤُلاَءِ النَّاسِ، فِي خَرَسِهِمْ الْمُطْلَقِ، فِي لاَمُبَالَاتِهِمْ.
كَانَ تَصَرُّفاً صِبْيَانِيًّا خَالِصاً أَنْ يَأْمَلَ رُؤْيَةَ كُلِّ الْمَسَافَاتِ
تَخْتَفِي بِمُجَرَّدِ النِّدَاءِ. بَلْ كَانَ مُذِلاًّ وَخَطِيراً. عِنْدَهَا، رَفَعَ
رَأْسَهُ وَ، وَلِمُلاَحَظَتِهِ أَنَّ الْكُلَّ كَانَ قَدْ خَرَجَ، بِدَوْرِهِ تَرَكَ
الصَّالَةَ.
IV
مَكَثَ تُومَاسْ يَقْرَأُ
فِي غُرْفَتِهِ. كَانَ جَالِساً، وَيَدَاهُ مَضْمُومَتَانِ فَوْقَ جَبِينِهِ، بِالْإِبْهَامَيْنِ
يَضْغَطَانِ عَلَى جُذُورِ شَعْرِهِ، مُنْهَمِكاً عَلَى الْقِرَاءَةِ لِدَرَجَةِ أَنَّهُ
لَمْ يَقُمْ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ حِينَ فُتِحَ الْبَابُ. الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ،
وَيَرَوْنَ كِتَابَهُ مَفْتُوحاً عَلَى الصَّفْحَتَيْنِ نَفْسَيْهِمَا، كَانُوا يَظُنُّونَ
أَنَّهُ يَتَظَاهَرُ بِالْقِرَاءَةِ. كَانَ يَقْرَأُ. كَانَ يَقْرَأُ بِدِقَّةٍ وَانْتِبَاهٍ
لاَ يُمَاثَلاَنِ. كَانَ يَبْدُو عِنْدَ كُلِّ رَمْزٍ، فِي الْوَضْعِ الَّذِي يَكُونُ
فِيهِ ذَكَرُ السُّرْعُوفَةِ حينَ تَهُمُّ السُّرْعُوفَةُ بِافْتِرَاسِهِ. كَانَ الْوَاحِدُ
مِنْهُمَا يَتَبَادَلُ النَّظَرَ مَعَ الْآخَرِ. كَانَتِ الْكَلِمَاتُ، الْمُنْتَسِبَةُ
إِلَى كِتَابٍ أَضْحَى يَكْتَسِبُ سُلْطَةً مُدَمِّرَةً، تُمَارِسُ عَلَى النَّظَرِ
الَّذِي يُلاَمِسُهَا جَاذِبِيَّةً لَطِيفَةً وَهَادِئَةً. كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا
كَانَتْ، كَعَيْنٍ مُوَارَبَةٍ، تَتْرُكُ النَّظَرَ الْحَادَّ جِدًّا يَخْتَرِقُهَا،
وَالَّذِي لَمْ تَكُنْ فِي ظُرُوفٍ أُخْرَى لِأَنْ تَتَحَمَّلَهُ. انْزَلَقَ تُومَاسْ
إِذَنْ نَحْوَ تِلْكَ الْمَمَرَّاتِ وَاقْتَرَبَ مِنْهَا دُونَ حِمَايَةٍ إِلَى أنْ
رُئِيَ مِنْ طَرَفِ رُوحِ الْكَلِمَةِ. لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُفْزِعاً بَعْدُ، كَانَ
بِالْعَكْسِ لَحْظَةً مُمْتِعَةً يَوَدُّ تَمْدِيدَهَا. أَخَذَ الْقَارِئُ يَتَأَمَّلُ
بِفَرَحٍ هَذِهِ الشَّرَارَةَ الصَّغِيرَةَ مِنَ الْحَيَاةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ
فِي أَنَّهُ أَصْحَاهَا. كَانَ يَتَمَرْأَى بِلَذَّةٍ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ الَّتِي
تَرَاهُ. حَتَّى أَنَّ لَذَّتَهُ أَضْحَتْ كَبِيرَةً جِدًّا. أَضْحَتْ كَبِيرَةً جِدًّا،
عَدِيمَةَ الرَّحْمَةِ لِغَايَةِ أَنَّهُ تَكَبَّدَهَا بِشَكْلٍ مِنَ الذُّعْرِ. مُنْتَصِباً،
فِي لَحْظَةٍ لاَ تُطَاقُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَصَّلْ مِنْ مُحَاوِرِهِ بِأَيِّ
إِشَارَةِ تَوَاطُؤٍ، فَقَدْ شَخَّصَ كُلَّ الْغَرَابَةِ فِي أَنَّهُ مُرَاقَبٌ مِنْ
طَرَفِ كَلِمَةٍ وَكَأَنَّهَا كَائِنٌ حَيٌّ، وَلَيْسَ مِنْ طَرَفِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ،
ولَكِنْ مِنْ قِبَلِ كُلِّ الْكَلِمَاتِ التِّي كَانَتْ مَبثوثةً فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ،
مِنْ قِبَلِ كُلِّ اللاَّتِي تُصَاحِبْنَهَا وَاللاَّتِي بِدَوْرِهَا تَتَضَمَّنُ فِي
كِيَانِهَا كَلِمَاتٍ أُخْرَى، مِثْلَ حَاشِيَّةٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْفَتِحَةٍ
دُونَ حُدُودٍ عَلَى عَيْنِ الْمُطْلَقِ. بَعِيداً عَنْ أَنْ يَحِيدَ مِنْهَا، بَذَلَ
كُلَّ جُهْدِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ فَهْمِ نَصٍّ مُتَمَنِّعٍ جِدًّا، رَافِضاً بِعِنَادٍ
أَنْ يُزِيحَ نَظَرَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مَا زَالَ قَارِئاً عَمِيقاً، فِي حِينٍ
كَانَتِ الْكَلِمَاتُ قَدْ تَرَبَّصَتْ بِهِ قَبْلاً وَبَدَأَتْ بِقِرَاءَتِهِ. قُبِضَ
عَلَيْهِ، مَعْجُوناً بِأَيَادٍ جَلِيَّةٍ، مَعْضُوضاً بِضُرْسٍ مَلِيءٍ بِالنُّسْغِ،
دَخَلَ بِجَسَدِهِ حَيًّا فِي الْمَبَانِي الْمَجْهُولَةِ لِلْكَلِمَاتِ، مَانِحاً
إِيَّاهَا مَادَّتَهُ، مُشَكِّلاً عَلاَقَاتِهَا، مُقَدِّماً لِكَلِمَةِ الْكَائِنِ
كَائِنَهَا. مَكَثَ لِسَاعَاتٍ جَامِداً، بِكَلِمَةِ الْعَيْنَيْنِ، مِنْ حِينٍ لِآخَرَ،
مَكَانَ الْعَيْنَيْنِ: كَانَ هَامِداً وَمَفْتُوناً وَمُنْكَشِفاً. وَحَتَّى بَعْدَ
ذَلِكَ، بَعْدَ أَنِ اسْتَكَانَ، وَنَاظِراً فِي الْكِتَابِ، فَحِينَ تَعَرَّفَ عَلَى
نَفْسِهِ بِاشْمِئْزَازٍ فِي هَيْأَةِ النَّصِّ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُهُ، احْتَفَظَ
بِفِكْرَةِ أَنَّ شَخْصَهُ الْمَحْرُومَ قَبْلاً مِنَ الْحَوَاسِّ، فِيمَا، جَاثِمَيْنِ
عَلَى كَتِفَيْهِ، كَانَتْ كَلِمَةُ هُوَ وَكَلِمَةُ أَنَا يَبْدَءَانِ تَنَاحُرَهُمَا،
كَانَتْ ثَمَّتَ كَلِمَاتٌ غَامِضَةٌ، أَرْوَاحٌ مَفْصُولَةٌ عَنِ الْأَجْسَادِ وَمَلاَئِكَةُ
الْكَلِمَاتِ، كَانَتْ تَتَفَحَّصُهُ بِعُمْقٍ.
كَانَ هَذَا اللَّيْلُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ تَبَيَّنَ فِيهَا تُومَاسْ هَذَا الْحُضُورَ. مِنْ خِلاَلِ ضَوءٍ يَنْسَابُ عَلَى طُولِ مِصْرَاعَيِ النَّافِذَةِ
وَيُقَسِّمُ السَّرِيرَ إِلَى جُزْأَيْنِ، كَانَ يَرَى الْغُرْفَةَ فَارِغَةً تَمَاماً،
غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى احْتِوَاءِ أَيِّ شَيْءٍ بِالْمَرَّةِ إِلَى دَرَجَةٍ تُؤْلِمُ
النَّظَرَ. كَانَ الْكِتَابُ يَتَعَفَنُّ عَلَى الطَّاوِلَةِ. لاَ أَحَدَ كَانَ يَمْشِي
فِي الْغُرْفَةِ. كَانَتْ عُزْلَتُهُ تَامَّةً. غَيْرَ أَنَّهُ بِقَدْرِ مَا كَانَ
عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنْ لاَ أَحَدَ بِالْغُرْفَةِ وَحَتَّى فِي الْعَالَمِ، كَانَ
عَلَى يَقِينٍ كَذَلِكَ مِنْ أَنَّ شَخْصاً مَا كَانَ فِيهَا، شَخْصاً يَسْكُنُ فِي
نَوْمِهِ، يَتَقَرَّبُ مِنْهُ حَمِيمِيَّا، كَانَ حَوْلَهُ وَفِيهِ. بِحَرَكَةٍ سَاذَجَةٍ،
اسْتَقَامَ عَلَى دُبُرِهِ وَحَاوَلَ أَنْ يَخْتَرِقَ اللَّيْلَ، مُسْتَجْدِياً مِنْ
يَدِهِ الضَّوْءَ. وَلَكِنَّهُ كَانَ كَالْأَعْمَى الَّذِي سَمِعَ صَوْتاً فَأَوْقَدَ
لِلتَّوِّ مِصْبَاحاً: لاَ شَيْءَ كَانَ لِيُمَكِّنَهُ مِنْ إِدْرَاكِ هَذَا الْحُضُورِ
فِي هَيْأَةٍ أَوْ فِي أُخْرَى. كَانَ فِي صِرَاعٍ مَعَ شَيْءٍ مَنِيعٍ، غَرِيبٍ، شَيْءٍ
كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ عَنْهُ: لَيْسَ هَذَا الشَّيْءُ مَوْجُوداً، وَالَّذِي
مَعَ ذَلِكَ كَانَ يَمْلَأُهُ بِالاِرْتِيَاعِ وَالَّذِي كَانَ يُحِسُّهُ يَهِيمُ فِي
بَاحَةِ عُزْلَتِهِ. بِمَا أَنَّهُ، كُلَّ اللَّيْلِ وَطِيلَةَ النَّهَارِ، وَهْوَ
سَاهِرٌ مَعَ هَذَا الْكَائِنِ، فَقَدْ كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يَخْلُدَ لِلرَّاحَةِ،
حِينَ انْتَبَهَ فَجْأَةً إِلَى أَنَّ كَائِناً آخَرَ كَانَ قَدْ حَلَّ مَحَلَّ الْأَوَّلِ،
مَنِيعاً وَغَامِضاً مِثْلَهُ وَمُخْتَلِفاً عَنْهُ رَغْمَ ذَلِكَ. كَانَ كَتَعْدِيلٍ
فِي الَّذِي لاَ يُوجَدُ، كَانَ طَرِيقَةً مُخْتَلِفَةً لِلْغِيَّابِ، كَانَ فَرَاغاً
آخَرَ يَتَحَرَّكُ تُومَاسْ فِيهِ. مِنَ الْأَكِيدِ الْآنَ، أَنَّ شَخْصاً يَقْتَرِبُ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ مَوْجُوداً فِي
أَيِّ مَكَانٍ وَلاَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلَى بُعْدِ خُطُوَاتٍ،
مَخْفِيًّا وَأَكِيداً. بِحَرَكَةٍ لاَ يُمْكِنُ لِشَيْءٍ إِيقَافُهَا، وَلاَ شَيْءَ
يُمْكِنُهُ تَعْجِيلُهَا، كَانَتْ تَأْتِي لِلِقَائِهِ قُوَةٌ لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَتِهِ
أَنْ يَقْبَلَ التَّمَاسَّ مَعَهَا. أَرَادَ أَنْ يَهْرُبَ. ارْتَمَى فِي الْبَهْوِ.
لاَهِثاً وَحَانِقاً، لَمْ يَقُمْ إِلاَّ بِبَعْضِ الْخُطُوَاتِ حِينَ أَقَرَّ بِانْتِشَارِ
الْكَائِنِ الَّذِي كَانَ يَتَقَدَّمُ نَحْوَهُ وَالَّذِي لاَ يُمْكِنُهُ تَجَنُّبُهُ.
عَادَ إِلَى الْغُرْفَةِ. حَصَّنَ الْبَابَ. انْتَظَرَ، مُتَّكِئاً بِظَهْرِهِ عَلَى
الْحَائِطِ. وَلَمْ تَسْتَنْفِذِ الدَّقَائِقُ وَلاَ السَّاعَاتُ انْتِظَارَهُ. كَانَ
دَائِماً وَاقِفاً عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ غِيَابٍ دَائِمِ الْفَظَاعَةِ واللِّقَاءُ
مَعَهُ يَتَطَلَّبُ وَقْتاً لاَ نِهَائِيًّا. كَانَ يُحِسُّهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ قَرِيباً
جِدًّا مِنْهُ، يَتَقَدَّمُ اللَّحْظَةَ بِجُزْءٍ، ضَئِيلٍ مِنَ الْوَقْتِ وَلَكِنْ
مُتَعَذِّرِ الْإِنْقَاصِ. كَانَ يَرَاهُ، كَكَائِنٍ فَظِيعٍ فِي احْتِكَاكٍ آنِيٍّ
بِهِ، وَكَمَوْجُودٍ خَارِجَ الزَّمَنِ، كَانَ يَرَاهُ بَعِيداً لِلْغَايَةِ. كَانَ
انْتِظَاراً وَفَزَعاً لاَ يُحْتَمَلَانِ لِغَايَةِ أَنَّهُمَا فَصَلاَهُ عَنْ نَفْسِهِ.
مَا يُشْبِهُ تُومَاسْ خَرَجَ مِنْ جَسَدِهِ وَتَقَدَّمَ لِمُلاَقَاةِ التَّهْدِيدِ
الَّذِي كَانَ يَنْجَلِي. حَاوَلَتْ عَيْنَاهُ أَنْ تَنْظُرَ لاَ فِي الْمَدَى، وَلَكِنْ
فِي الْمُدَّةِ الزَّمَنِيَّةِ وَفِي نُقْطَةٍ مِنَ الْوَقْتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً
بَعْدُ. كَانَتْ يَدَاهُ تَبْحَثَانِ فِي لَمْسِ جَسَدٍ غَيْرِ مَحْسُوسٍ وَغَيْرِ
وَاقِعِيٍّ. كَانَ مَجْهُوداً شَاقًّا أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي كَانَ يَبْتَعِدُ
عَنْهُ وَ، بِابْتِعَادِهِ، كَانَ يُحَاوِلُ أَنْ يَجْتَذِبَهُ، كَانَ يَبْدُو لَهُ
هُو نَفْسُهُ الَّذِي، وَبِطَرِيقَةٍ يَعْجِزُ اللِّسَانُ عَنْ وَصْفِهَا، كَانَ يَقْتَرِبُ.
وَقَعَ أَرْضاً. كَانَ يَنْتَابُهُ شُعُورٌ بِأَنَّهُ مُلَطَّخٌ بِالْقَذَارَةِ. كُلُّ
جُزْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَتَكَبَّدُ احْتِضَاراً.
كَانَتْ رَأْسُهُ مُجْبَرَةً عَلَى لَمْسِ الْأَلَمِ، وَرِئَتَاهُ عَلَى اسْتِرْوَاحِهِ.
كَانَ ثَمَّتَ عَلَى أَرْضِيَةِ الْغُرْفَةِ مُلْتَوِياً، ثُمَّ مُتَدَاخِلاً فِي نَفْسِهِ
ثُمَّ خَارِجاً مِنْهَا. كَانَ يَزْحَفُ بِبُطْءٍ
يَكَادُ لا يَخْتَلِفُ عَنِ الْأُفْعُوَانِ الَّذِي كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُصْبِحَهُ
لِيُوقِنَ بِالسُّمِّ الَّذِي كَانَ يُحِسُّهُ فِي فَمِهِ. كَانَ يَضَعُ رَأْسَهُ تَحْتَ
السَّرِيرِ فِي زَاوِيَةٍ مَلِيئَةٍ بِالْغُبَارِ. كَانَ يَرْتَاحُ عَلَى الْفَضَلاَتِ
كَمَا فِي مَكَانٍ لِلتَّرْطِيبِ حَيْثُ كَانَ يَرَى نَفْسَهُ فِي نَقَاءٍ أَكْثَرَ
مِنْهُ فِي نَفْسِهِ. إِنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي يُحِسُّ فِيهَا بِأَنَّهُ يُعَضُّ أَوْ يُضْرَبُ،
لَمْ يَكُنْ بِمُسْتَطَاعِهِ أَنْ يَعْرِفَ، مِنْ طَرَفِ مَا كَانَ يَبْدُو لَهُ كَلِمَةً،
وَالَّذِي يُشْبِهُ بِالْأَحْرَى جُرْذاً ضَخْماً،
بِعَيْنَيْنِ ثَاقِبَتَيْنِ، وَأَسْنَانٍ نَاصِعَةٍ، وَالَّذِي كَانَ دَابَّةً قَوِيَّةً
جِدًّا. وَلِرُؤْيَتِهَا عَلَى بُعْدِ بَعْضِ الْبُوصَاتِ مِنْ وَجْهِهِ، لَمْ يَكُنْ
بِمُسْتَطَاعِهِ أَنْ يَتَهَرَّبَ مِنِ اشْتِهَاءِ افْتِرَاسِهَا، وَحَمْلِهَا مَعَهُ
إِلَى الْحَمِيمِيَّةِ الْأَكْثَرِ عُمْقاً. اِرْتَمَى عَلَيْهَا و، غَارِزًا أَظَافِرَهُ
فِي أَحْشَائِهَا، حَاوَلَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا. أَتَتْ نِهَايَةُ اللَّيْلِ.
الضَّوْءُ الَّذِي كَانَ يَلْمَعُ عَبْرَ الْمِصْرَاعَيْنِ انْطَفَأَ. وَلَكِنَّ الْمُصَارَعَةَ
مَعَ الدَّابَةِ الْبَشِعَةِ، وَالَّتِي ظَهَرَتْ أَخِيراً بِعِزَّةِ نَفْسٍ وَبَهَاءٍ
فَرِيدَيْنِ، اسْتَغْرَقَتْ وَقْتاً لَمْ يَسْتَطِعْ عَدَّهُ. هَذِهِ الْمُصَارَعَةُ
كَانَتْ فَظِيعَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْكَائِنِ الْمُمَدَّدِ عَلَى الْأَرْضِ الَّذِي
تَصْطَكُّ أَسْنَانُهُ، يَخْدِشُ وَجْهَهُ، وَيَقْتَلِعُ عَيْنَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ
مِنْ إِدْخَالِ الدَّابَةِ وَالَّتِي كَانَتْ سَتُشْبِهُ مَعْتُوهاً لَوْ أَنَّهَا
كَانَتْ تُشْبِهُ رَجُلاً. كَانَتْ تَقْرِيباً جَمِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا
النَّوعِ مِنَ الْمَلاَئِكِ السُّودِ، مَكْسُوَّةً بِالزَّغَبِ الْأَصْهَبِ، بِعَيْنَيْنِ
لاَمِعَتَيْنِ. مَرَّةً كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا يَظُنُّ أَنَّهُ انْتَصَرَ وَكَانَ
يَرَاهَا تَنْزِلُ فِيهِ، بِغَثَيَانٍ لاَ يُمْكِنُ كَبْحُهُ، كَلِمَةُ بَرَاءَةٍ التِّي
كَانَتْ تُنَجِّسُهُ. وَأُخْرَى كَانَ فِيهَا الْآخَرُ يَفْتَرِسُ الْأَوَّلَ بِدَوْرِهِ،
كَانَ يَسْحَبُهُ مِنَ الثُّقْبِ الَّذِي أَتَى مِنْهُ، ثُمَّ يَرْمِي بِهِ كَجَسَدٍ صَلْبٍ وَفَارِغٍ. فِي كُلِّ
مَرَّةٍ، كَانَ تُومَاسْ يُدْحَرُ إِلَى قَرَارَةِ نَفْسِهِ مِنْ طَرَفِ الْكَلِمَاتِ
نَفْسِهَا الَّتِي تَسْكُنُهُ وَالَّتِي كَانَ
يُلاَحِقُهَا كَحُلُمِهِ الْمُزْعِجِ وَكَتَفْسِيرٍ لِحُلُمِهِ الْمُزْعِجِ. كَانَ
يَجِدُ نَفْسَهُ دَائِماً أَكْثَرَ فَرَاغاً وَأَكْثَرَ صَلاَبَةً، وَلَمْ يَكُنْ يَتَحَرَّكُ
إِلاَّ بِتَعَبٍ لاَمُنْتَههٍ. جَسَدُهُ، بَعْدَ كَثِيرِ الْمُصَارَعَاتِ، أَصْبَحَ
بِكَامِلِهِ كَامِداً وَ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،
فَقَدْ كَانَ يَمْنَحُهُمْ شُعُوراً بِالنَّوْمِ الْمُرِيحِ، رَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ
عَنِ الْيَقَظَةِ.
حَوَالَيْ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ،
نَهَضَ تُومَاسْ وَنَزَلَ دُونَ ضَجِيجٍ. لاَ أَحَدَ رَآهُ إِلاَّ هِرٌّ شِبْهُ أَعْمَى،
حِينَ رَأَى اللَّيْلَ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ، جَرَى وَرَاءَ هَذَا اللَّيْلِ الْجَدِيدِ
الَّذِي لاَ يَرَاهُ. بَعْدَ أَنِ انْدَسَّ فِي غَارٍ حِينَ لَمْ يَتَعَرَّفْ عَلَى
أَيِّ رَائِحَةٍ، بَدَأَ هَذَا الْهِرُّ فِي الْمُوَاءِ مُخْرِجاً مِنْ عُمْقِ حُنْجُرَتِهِ
الصُّرَاخَ الْأَجَشَّ الَّذِي مِنْ خِلاَلِهِ تُلَمِّحُ الْهِرَرُ إِلَى أَنَّهَا
حَيَوَانَاتٌ مُقَدَّسَةٌ. كَانَ يَنْتَفِخُ وَيُغَرْغِرُ. كَانَ يَجْتَذِبُ مِنَ الْمَعْبُودِ
الَّذِي كَانَ يَصِيرُهُ الصَّوْتَ الْمُبْهَمَ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُ اللَّيْلَ
وَيَتَكَلَّمُ.
"مَاذَا يَحْدُثُ؟ كَانَ الصَّوْتُ يَقُولُ. الْأَرْوَاحُ الَّتِي
أَتَوَاصَلُ مَعَهَا عَادَةً، الرُّوحَ الَّتِي تَجُرُّ ذَنَبِي حِينَ تَكُونُ الْقَصْعَةُ
مَلِيئَةً، الرُّوحَ الَّتِي تَخْطِفُنِي فِي الصَّبَاحِ وَتُنِيمُنِي عَلَى زَغَبٍ
مُثِيرٍ، وَالرُّوحَ، أَجْمَلَ كُلِّ الْأَرْوَاحِ، الَّتِي تَمُوءُ، وَتُخَرْخِرُ
وَتُشْبِهُنِي بِدِقَّةٍ وَكَأَنَّهَا رُوحِيَ الْخَاصَّةُ، كُلُّهَا غَابَتْ. أَيْنَ
أَنَا الْآنَ؟ إِذَا مَا بَحَثُّ بِرِجْلِي بِهُدُوءٍ فَلَنْ أَجِدَ شَيْئاً، لاَ شَيْءَ
فِي أَيِّ مَكَانٍ. أَنَا عَلَى مِزْرَابٍ قَصَبِيٍّ حَيْثُ لاَ أَسْتَطِيعُ إِلاَّ
أَنْ أَسْقُطَ مِنْ أَعْلاَهُ. وَأَنْ أَسْقُطَ فَلَيْسَ هَذَا مَا يُفْزِعُنِي. وَلَكِنَّ
الْحَقِيقَةَ أَنَّنِي لاَ أَسْتَطِيعُ حَتَّى أَنْ أَسْقُطَ؛ لاَ سُقُوطَ مُمْكِناً؛
أَنَا مُحَاطٌ بِفَرَاغٍ غَرِيبٍ يَصُدُّنِي وَلاَ أَعْرِفُ كَيْفَ أَعْبُرُهُ. أَيْنَ
أَنَا إِذَنْ؟ وَيْلِي. فِي مَا مَضَى، كُنْتُ أُدْرِكُ، وَأَنَا أَصِيرُ دَابَّةً
يُمْكِنُ أَنْ نُلْقِيَ بِهَا فِي النَّارِ دُونَ أَنْ نُعَاقَبَ، أَسْرَاراً مِنَ
الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، كُنْتُ أَعْرِفُ، عَبْرَ وَمِيضٍ كَانَ يَشْطُرُنِي، بِضَرْبَةِ
الْمِخْلَبِ الَّتِي كُنْتُ أُعْطِيهَا، الْأَكَاذِيبَ، الْجَرَائِمَ، قَبْلَ أَنْ
تُقْتَرَفَ. وَالْآنَ أَنَا كَائِنٌ دُونَ نَظَرٍ. أَسْمَعُ صَوْتاً فَظِيعاً بِوَاسِطَتِهِ
أَقُولُ مَا أَقُولُهُ دُونَ أَنْ أَعْرِفَ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أُفَكِّرُ، وَأَفْكَارِي
هِيَ كَذَلِكَ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ مِثْلَمَا تَكُونُهُ تَجْعِيدَاتُ الزَّغَبِ وَلَمَسَاتُ
الْأُذُنَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْوَاعِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي أَرْتَبِطُ بِهَا.
الْفَظَاعَةُ وَحْدَهَا تَخْتَرِقُنِي. أَلْتَفِتُ وَأَنْقَلِبُ مُعَبِّراً عَنْ شَكْوَى
دَابَّةٍ فَظِيعَةٍ. أُحِسُّ بِيَ، جُرْحاً شَنِيعاً، وَجْهاً كَبِيراً جِدًّا كَوَجْهِ
رُوحٍ، بِلِسَانٍ أَمْلَسَ وَتَفِهٍ، لِسَانِ أَعْمَى، وَأَنْفٍ مُشَوَّهٍ، عَاجِزٍ
عَنِ الاِسْتِشْعَارِ، بِعَيْنَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ جِدًّا، دُونَ هَذِهِ الشُّعْلَةِ
الْمُسْتَقِيمَةِ الَّتِي تُمَكِّنُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ فِينَا. فَرْوَتِي
تَتَشَقَّقُ. إِنَّهَا وَدُونَ شَكٍّ، الْعَمَلِيَةُ الْأَسْمَى. مَا إِنْ يُصْبِحْ
غَيْرَ مُمْكِنٍ، وَحَتَّى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، أَنْ أَقْتَبِسَ مِنِّي، بِحَكِّ
زَغَبِي، نُوراً خَارِقاً، فَإِنَّ الْأَمْرَ سَيَكُونُ قَدِ انْتَهَى. بَدْءً أَنَا
أَكْثَرُ عَتَمَةً مِنَ الظُّلُمَاتِ. أَنَا لَيْلُ اللَّيْلِ أَمْشِي، عَبْرَ ظِلاَلٍ
وَأَتَمَيَّزُ عَنْهَا لِأَنِّي ظِلُّهَا، لِلِقَاءِ الْهِرِّ الْأَعْلَى. لَيْسَ بِدَاخِلِيَ
الْآنَ أَيُّ خَوْفٍ. جَسَدِي الَّذِي بِكَامِلِهِ يُشْبِهُ جَسَدَ رَجُلٍ، جَسَدَ
بَشُوشٍ، حَافَظَ عَلَى حَجْمِهِ، وَلَكِنَّ رَأْسِي كَبِيرَةٌ. صَوْتٌ يُجَلْجِلُ،
صَوْتٌ لَمْ أَسْمَعْهُ أَبَداً مِنْ قَبْلُ. بَصِيصٌ يَبْدُو خَارِجاً مِنْ جَسَدِي،
فِي حِينٍ أَنَّهُ رَتِيبٌ وَرَطْبٌ، يَتَحَلَّقُ حَوْلِيَ دَائِرَةً مِثْلَ جَسَدٍ
آخَرَ لاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ. بَدَأْتُ أُمَيِّزُ مَشْهَداً. فِيمَا الظَّلاَمُ
يَغْدُو ثَقِيلاً، شَكْلٌ كَبِيرٌ ضَارِبٌ إِلَى الْبَيَاضِ يَرْتَفِعُ أَمَامِي. أَقُولُ،
أَنَا، مُنْسَاقاً بِغَرِيزَةٍ عَمْيَاءَ، لِأَنَّنِي مُنْذُ أَنْ فَقَدْتُ ذَنَبِي
الْمُسْتَقِيمِ جِدًّا الَّذِي كُنْتُ أَسْتَخْدِمُهُ كَدَفَّةٍ فِي الْعَالَمِ، لَمْ
أَعُدْ بِصَرَاحَةٍ أَنَا. هَذِهِ الرَّأْسُ الَّتِي تَتَضَخَّمُ دَوْماً وَالَّتِي،
بَدَلاً مِنَ الرَّأْسِ، تَبْدُو نَظَراً لَيْسَ إِلاَّ، مَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ؟
لاَ أَرَاهَا دُونَ انْزِعَاجٍ. تَتَحَرَّكُ، تَقْتَرِبُ. هِيَ، عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيدِ،
مُلْتَفِتَةٌ نَحْوِي وَرَغْمَ كَوْنِهَا نَظَراً، فَهْيَ تَتْرُكُ فِيَ انْطِبَاعاً
مُرَوِّعاً بِأَنَّهَا لاَ تُبْصِرُنِي. لَوْ كُنْتُ مَازِلْتُ بِزَغَبِي، لَكُنْتُ
أَحْسَسْتُهُ يَنْتَصِبُ حَوْلَ كُلِّ جَسَدِي. وَلَكِنِّي، فِي حَالَتِي هَذِهِ، لَيْسَتْ
لَدَيَّ حَتَّى الْقُدُرَاتُ عَلَى أَنْ أُقَاسِيَ الْخَوْفَ الَّذِي أُحِسُّهُ. أَنَا
مَيِّتٌ، مَيِّتٌ. هَذِهِ الرَّأْسُ، رَأْسِي، لاَ تَرَانِي حَتَّى، لِأَنَّنِي مُنْدَثِرٌ.
لِأَنَّنِي أَنَا الَّذِي أَرَانِي وَلاَ أُمَيِّزُنِي. يَا الْهِرُّ الْأَعْلَى الَّذِي
صِرْتُهُ لِلَحْظَةٍ لِأُلاَحِظَ مَوْتِي، سَوْفَ أَخْتَفِي الْآنَ إِلَى الْأَبَدِ.
سَوْفَ أَتَوَقَّفُ أَوَّلاً عَنْ كَوْنِي رَجُلاً. سَأَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى هِرًّا
صَغِيراً بَارِداً وَغَيْرَ مَسْكُونٍ، مُمَدَّداً عَلَى الْأَرْضِ. سَأُغَرْغِرُ مَرَّةً
أُخْرَى. سَأُلْقِي بِآخِرِ نَظْرَةٍ عَلَى هَذَا الْوَادِي الَّذِي سَيَنْغَلِقُ وَحَيْثُ
سَأَرَى رَجُلاً، هِرًّا أَعْلَى هُوَ كَذَلِكَ. سَأَسْمَعُهُ يَكْشِطُ الْأَرْضَ،
بِمَخَالِبِهِ عَلَى الْأَرْجَحِ. مَا نُسَمِّيهِ الْحَيَاةَ الْعُلْيَا، قَدِ انْتَهَى
بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ."
مُسْتَوِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ
وَالظَّهْرُ مُقَوَّسٌ، كَانَ تُومَاسْ يَحْفُرُ الْأَرْضَ. حَوْلَهُ كَانَتْ تَمْتَدُّ
بَعْضُ الْحُفَرِ الَّتِي عَلَى حَافَتِهَا كَانَ النَّهَارُ يَقِفُ مَكْبُوتاً. لِلْمَرَّةِ
السَّابِعَةِ، كَانَ يُهَيِّئُ بِبُطْءٍ، تَارِكاً عَلَى الْأَرْضِيَةِ آثَارَ يَدَيْهِ،
ثُقْباً كَبِيراً كَانَ يُوَسِّعُهُ عَلَى مَقَاسِ قَامَتِهِ. وَبَيْنَمَا كَانَ يَحْفُرُهُ،
كَانَ الْفَرَاغُ، وَكَأَنَّهُ قَدْ مُلِئَ بِدَزِينَاتٍ مِنَ الْأَيْدِي، ثُمَّ بِسَوَاعِدَ،
وَأَخِيراً بِالْجَسَدِ بِكَامِلِهِ، يُسْدِي بِمُقَاوَمَةٍ كَانَ تُومَاسْ عَمَّا
قَرِيبٍ سَيَفْشِلُ فِي التَّغَلُّبِ عَلَيْهَا. كَانَ الْقَبْرُ مَلِيئاً بِكَائِنٍ
وَكَانَ يَمْتَصُّ غِيَابَ هَذَا الْكَائِنِ. جُثَّةٌ لاَ يُمْكِنُ طَرْدُهَا كَانَتْ
تَنْغَرِسُ فِيهِ، وَاجِدَةً فِي هَذَا الْغِيَابِ لِلشَّكْلِ الشَّكْلَ الْمُمْتَازَ
لِوُجُودِهَا. كَانَتْ مُصِيبَةً رَوْعُهَا كَانَ مَحْسُوساً، مِنْ طَرَفِ رِجَالِ
الْقَرْيَةِ فِي نَوْمِهِمْ. مَا إِنْ تَمَّتِ الْحُفْرَةُ حَتَّى ارْتَمَى فِيهَا
تُومَاسْ، بَعْدَ أَنْ عَلَّقَ بِعُنُقِهِ حَجَراً كَبِيراً، ارْتَطَمَ بِجَسَدٍ أَكْثَرَ
صَلاَبَةً أَلْفَ مَرَّةٍ مِنَ الْأَرْضِيَةِ، جَسَدِ الْحَفَّارِ نَفْسِه الَّذِي
سَبَقَ أَنْ دَخَلَ الْقَبْرَ لِيَحْفُرَهُ. هَذِهِ الْحُفْرَةُ الَّتِي كَانَ لَهَا
بِالتَّدْقِيقِ قَامَتُهُ، شَكْلُهُ، ثَخَانَتُهُ كَانَتْ مِثْلَ جُثَّتِهِ نَفْسِهَا،
وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَبْحَثُ فِيهَا عَنِ الْهَرَبِ، كَانَ يُشْبِهُ مَيِّتاً
عَبَثِيًّا يُحَاوِلُ أَنْ يَدْفِنَ جَسَدَهُ فِي جَسَدِهِ. كَانَ هُنَاكَ مِنْ ذَاكَ
الْحِينِ فَصَاعِداً، فِي كُلِّ الْمَقَابِرِ الَّتِي كَانَ بِمُسْتَطَاعِهِ أَنْ يَأْخُذَ
فِيهَا مَكَاناً، فِي كُلِّ الْأَحَاسِيسِ الَّتِي هِي كَذَلِكَ قُبُورٌ لِلْمَوْتَى،
فِي هَذَا الْفَنَاءِ الَّذِي كَانَ يَمُوتُ بِهِ دُونَ أَنْ يَسْمَحَ بِأَنْ يُظَنَّ
أَنَّهُ مَيِّتٌ، كَانَ هُنَاكَ مَيِّتٌ آخَرُ يَسْبِقُهُ وَكَانَ، مُشَابِهاً لَهُ،
يَدْفَعُ إِلَى أَقْصَاهُ الْتِبَاسَ مَوْتِ وَحَيَاةِ تُومَاسْ. فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
تَحْتَ الْأَرْضِيَةِ حَيْثُ نَزَلَ مَعَ الْقِطَطِ وَأَحْلاَمِ الْقِطَطِ، وَشَبِيهٍ،
مُخَاطاً بِمَنَاخِيسَ، الْحَوَاسُّ مَصْكُوكَةٌ بِسَبْعَةِ أَخْتَامٍ، الذِّهْنُ غَائِبٌ،
كَانَ يَحْتَلُّ مَكَانَهُ، وَهَذَا الشَّبِيهُ كَانَ الْوَحِيدَ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ
أَنْ يَتَصَافَى مَعَهُ، بِمَا أَنَّهُ كَانَ نَفْسَهُ بِالذَّاتِ، مُحَقَّقاً فِي
الْفَرَاغِ الْمُطْلَقِ. كَانَ يَنْحَنِي عَلَى هَذَا الْقَبْرِ الْمُثْلِجِ. مِثْلَ
الرَّجُلِ الَّذِي يَشْنُقُ نَفْسَهُ، بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ الْمِرْقَاةَ الَّتِي مَا
زَالُ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، فِي آخِرِ انْعِطَافٍ، بَدَلاً مِنْ أَنْ يُحِسَّ بِالْقَفْزَةِ
الَّتِي يَقُومُ بِهَا فِي الْفَرَاغِ، لاَ يُحِسُّ إِلاَّ بِالْحَبْلِ الَّذِي يَشُدُّهُ،
مَشْدُوداً إِلَى نِهَايَتِهِ ،مُقَيَّداً أَكْثَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ، مَرْبُوطاً أَكْثَرَ
مِمَّا كَانَهُ إِلَى الْوُجُودِ الَّذِي يُرِيدُ التَّحَرُّرَ مِنْهُ، هُوَ كَذَلِكَ
كَانَ يُحِسُّ، فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُ فِيهَا أَنَّهُ مَيِّتٌ، بِأَنَّهُ
غَائِبٌ، غَائِبٌ تَمَاماً عَنْ مَوْتِهِ. لاَ جَسَدُهُ الَّذِي كَانَ يَتْرُكُ فِي
أَعْمَاقِ نَفْسِهِ الْبُرُودَةَ الَّتِي يُعْطِيهَا التَّلاَمُسُ بِجُثْمَانٍ وَالَّتِي
لَيْسَتْ بُرُودَةً وَلَكِنْ غِيَابَ التَّلاَمُسِ، وَلاَ الظُّلْمَةُ الَّتِي كَانَتْ
تَنْضَحُ مِنْ كُلِّ مَسَامِّهِ وَالَّتِي، حَتَّى حِينَ كَانَ مَرْئِيًّا، كَانَتْ
تَجْعَلُ مِنْ غَيْرِ الْمُمْكِنِ اسْتِعْمَالُ أَيِّ حَاسَّةٍ، أَيِّ حَدْسٍ وَأَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ أَيِّ فِكْرَةٍ لِرُؤْيَتِهِ، وَلاَ كَوْنُهُ أَنْ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَمْ
يَكُنْ بِمُسْتَطَاعِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَيًّا كَانَ يَكْفِي كَيْ يُعْتَبَرَ مَيِّتاً.
وَهَذَا لَمْ يَكُنْ سُوءَ تَفَاهُمٍ. لَقَدْ كَانَ حَقًّا مَيِّتاً. وَفِي الْوَقْتِ
نَفْسِهِ مَطْرُوداً مِنْ حَقِيقَةِ الْمَوْتِ. لَقَدْ كَانَ، فِي الْمَوْتِ نَفْسِهِ،
مَحْرُوماً مِنَ الْمَوْتِ، رَجُلاً فَانِيًّا لِلْغَايَةِ، مُعَلَّقاً فِي الْعَدَمِ
بِصُورَتِهِ الْخَّاصَّةِ، بِهَذَا التُّومَاسْ الَّذِي يَجْرِي أَمَامَهُ، حَامِلِ
الْمَشَاعِلِ الْمُطْفَأَةِ وَالَّذِي كَانَ كَوُجُودٍ لِآخِرِ مَوْتٍ. سَابِقاً، حِينَ
كَانَ مَا زَالَ يَنْحَنِي عَلَى ذَاكَ الْفَرَاغِ حَيْثُ كَانَ يَرَى صُورَتَهُ فِي
الْغِيَابِ التَّامِّ لِلصُّوَرِ، مَأْخُوذاً بِأَعْنَفِ دُوَارٍ مَوْجُودٍ، دُوَارِ
مَا كَانَ يَجْعَلُهُ يَسْقُطُ، وَلَكِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنَ السُّقُوطِ وَالَّذِي
كَانَ يَجْعَلُ السَّقْطَةَ الَّتِي كَانَ يَجْعَلُهَا غَيْرَ مُمْكِنَةٍ مَحْتُومَةً،
حِينَهَا كَانَتِ الْأَرْضُ تَضْمُرُ حَوْلَهُ، وَاللَّيْلُ، لَيْلاً لاَ يُطَابِقُ
شَيْئاً، كَانَ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يُحِسُّ بِحَقِيقَتِهِ إِلاَّ لِأَنَّهُ كَانَ أَقَلَّ
وَاقِعِيَّةً مِنْهُ، كَانَ يُحْدِقُ بِهِ. فِي كُلِّ الْهَيْئَاتِ، كَانَ يَجْتَاحُهُ
انْطِبَاعٌ بِأَنَّهُ فِي لُبِّ الْأَشْيَاءِ. حَتَّى عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْضِ
حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ اخْتِرَاقَهَا، كَانَ فِي دَاخِلِ هَذِهِ الْأَرْضِ
الَّتِي يُلاَمِسُهُ بَاطِنُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَانَ اللَّيْلُ
يَسْجِنُهُ. كَانَ يَرَى، وَيَسْمَعُ حَمِيمِيَةَ لاَ مُنْتَهٍ حَيْثُ كَانَ مُطَوَّقاً
بِغِيَابِ الْحُدُودِ نَفْسِهِ. كَانَ يُحِسُّ كَوُجُودٍ مُرْهَقٍ بِلاَوُجُودِ وَادِي
الْمَوْتِ هَذَا. شَيْئاً فَشَيْئاً كَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ فَوَحَانُ عَفَنِ تُرْبَةٍ
حَادٍّ وَمُبَلَّلٍ. كَالَّذِي، حَيًّا، يَسْتَيْقِظُ فِي تَابُوتِهِ، كَانَ يَنْظُرُ
بِارْتِيَاعٍ إِلَى الْأَرْضِ اللَّامَحْسُوسَةِ حَيْثُ كَانَ يَطْفُو تَتَحَوَّلُ
إِلَى هَوَاءٍ دُونَ هَوَاءٍ، مَلِيءٍ بِرَوَائِحِ الْأَرْضِ، الْخَشَبِ الْعَفِنِ،
الْقُمَاشِ الْمُبَلَّلِ. الْآنَ مَدْفُوناً فِعْلاً، كَانَ يَكْتَشِفُ نَفْسَهُ، تَحْتَ
طَبَقَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ مِنْ مَادَّةٍ كَانَتْ تُشْبِهُ الْجِبْسَ، فِي قَبْوٍ حَيْثُ
كَانَ يَخْتَنِقُ. كَانَ يَنْغَمِسُ فِي بَيْئَةٍ مُثَلَّجَةٍ بَيْنَ أَغْرَاضٍ كَانَتْ
تَسْحَقُهُ. إِذَا كَانَ مَا زَالَ مَوْجُوداً، فَلِكَيْ يَتَعَرَّفَ، فِي هَذِهِ الْقَاعَةِ
الْمَلِيئَةِ بِالْأَزْهَارِ الْمَأْتَمِيَّةِ، بِالضَّوْءِ الشَّبَحِيِّ، عَلَى اسْتِحَالَةِ
الْعَوْدَةِ إِلَى الْحَيَاةِ.
اسْتَعَادَ تَنَفُّسَهُ
فِي الاِخْتِنَاقِ. اسْتَعَادَ إِمْكَانِيَةَ الْمَشْيِ، النَّظَرِ، وَالصُّرَاخِ فِي
كَنَفِ سِجْنٍ حَيْثُ كَانَ مَحْبُوساً فِي الصَّمْتِ وَالظَّلاَمِ الْمَنِيعَيْنِ.
كَانَ ارْتِيَاعاً غَرِيباً، ارْتِيَاعُهُ ذَاكَ، بَيْنَمَا مُجْتَازاً الْحَوَاجِزَ
الْأَخِيرَةَ، كَانَ يَبْدُو عَلَى الْبَابِ الضَّيِّقَةِ لِقَبْرِهِ، لَيْسَ مَبْعُوثاً،
وَلَكِنْ مَيِّتاً وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ مُنْتَزَعٌ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ
مِنَ الْمَوْتِ وَمِنَ الْحَيَاةِ. كَانَ يَمْشِي، مُومِيَاءَ مَرْسُومَةً؛ كَانَ يَنْظُرُ
إِلَى الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تَجِدُّ لِتُبَيِّنَ عَلَى صُورَتِهِ الْغَائِبَةِ
وَجْهاً مُبْتَسِماً وَحَيًّا. كَانَ يَمْشِي وَحْدَهُ لَعَازِراً حَقِيقِيًّا، بِمَوْتِهُ
نَفْسِهُ كَانَ مَبْعُوثاً. كَانَ يَتَقَدَّمُ، عَابِراً مِنْ فَوْقِ آخِرِ ظِلاَلِ
اللَّيْلِ، دُونَ أَنْ يَفْقِدَ شَيْئاً مِنْ مَجْدِهِ، مَكْسُوًّا بِالْعُشْبِ وَالتُّرَابِ،
ذَاهِباً، تَحْتَ شَلاَّلِ النُّجُومِ، بِخَطْوٍ مُتَسَاوٍ، بِالْخَطْوِ نَفْسِهِ الَّذِي،
بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ الَّذِينَ لَيْسُوا مَسْتُورِينَ بِكَفَنٍ، يُعَيِّنُ الصُّعُودَ
نَحْوَ أَنْبَلِ هَدَفٍ فِي الْحَيَاةِ.
موريس بلانشو: روائي
وناقد أدبي وفيلسوف فرنسي (1907-2003).
"توماس الغامض" أولى روايات موريس بلانشو، نشرها عام 1941 (وهي تحتوي
على أكثر من 300 ص)، ثم أعاد نشرها عام 1950 (120 ص) بعد أن نقص منها ما يناهز الثلثين
من حجمها. نحن أمام رواية مركَّزة ومتكثّفة في شكلها ومضمونها، عصارة لعشر سنوات من
التنقيح والاختزال والمعالجة. إنها رواية متقبضة الحجم شاسعة العمق، تطالبنا بقراءة
متأنية. إنها، حسب بيير مادول، الذي قدم نسختها الأولى، رواية غامضة تجريدية مُطَلْسَمَةٌ.
نص عسير جدا. فماذا كان سيقوله تقديما لهذه النسخة الثانية، هذه العصارة الفاتنة.
** شاعر فرنسي من أصل مغربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق