ترجمة: رويدة سالم
مراجعة: محمد أسليم
- التقيت
جورج باتاي في بداية الخمسينات، في إطار عملك كناشر.
*
بالعودة إلى أواخر أربعينيات،
لم يكن باتاي معروفا عند الجمهور إطلاقا. لكني عندما قابلته وجدت نفسي أمام شخص يتمتّع
بجاذبية استثنائية ومع ذلك كان مجهولا تماما.
وقد
بدأت قراءة باتاي قبل أن أتعرّف عليه. ففي سنة 1943 – كنت حينذاك في السابعة
عشر- قرأت، بشكل متزامن، كُلا من رواية "120
يوما في سدوم" لساد و"حكاية
العين" لباتاي. تركني هذان النصان مشدوها، إذ رغم أني كنت قد اطلعت على عدد
كبير من الكتب والدوريات الإيروسية المصوّرة مع ذلك لم أشهد أبدا مثل تلك الكتابة.
وكل ما كان يُقال حول باتاي لم يزدني إلاّ ذهولا: حلقاته الدراسية، مدرسة دي شارت،
عمله محافظا في المكتبة الوطنية... إنه شخصية أسطورية. إلى أن دخل في أحد أيام سنة
1951 مكتبتي في شارع دي سيزو (الذي تحوّل اليومَ إلى مطعم ياباني).
عرض
نفسه بوسامة استثنائية ولباقة فاتنة ومتدفقة: يا لنظرته وهو في سنّه الثامن
والخمسين! وجدته مثيرا
للإعجاب والاحترام إلى أقصى حدّ، فأصبحنا أصدقاء. كان يهتمّ بسَاد الذي كنتُ قد
شرعتُ في إصدار كتبه عَلَنا باسمي كناشر، وجرت بيننا نقاشات طويلة، تخلّلتها
اختلافات، خاصة في ما يتعلّق بالخطيئة. فقد كان يرى أنَّ الإيروسية غير قابلة
للتصوُّر من دون خطيئة، وهو ما لم أكن مقتنعا به. ثمّ دارت نقاشاتنا حول ساد: في
تلك الفترة كنت أكنّ لباتاي احتراما كبيرا بلغَ حدَّ أني لم أجرؤ على القول له بأن
فكرته عن ساد كان يعوزها الصواب. أظنُّ أن باتاي تحدّث عن ساد نتيجة قراءته
لكتاباته، ولم يتحدّث أبدا عن ساد نفسه. فقد كان يرى في ساد لون الموت في حين كان ساد
هو الحياة عيُنها.
لم
يعد لباتاي في الخمسينيات أيّ ناشر: فدار النشر غاليمار لم تعد ترغب فيه، ومينوي كانت
تحتفظ بمخزون من كتابه "النصيب الملعون" بعد عرضته بسعر مُخفَّض دون أن
يجد له مشترين. وتدريجيا، أتاني باتاي بكل ما كان عنده...
في
سنة 1957 نظمتُ حفلاً في حانة البون روايل، بمناسة صدور عناوين "الإيروسية"
و"زرقة السماء" و"الأدب والشرّ"، وصادَف ذلك بلوغ باتاي سن الستين،
فحضر غاستون غاليمار، لكن حضوره لم ينتج عنه أي رفع في المبيعات.
أول
مخطوطة قدّمها لي باتاي كانت هي "زرقة السماء"، ولم يسبق نشرها من قبل، فطبعتُ
ألفي نسخة منها لا غير، ومع ذلك تبقى لي الكثير منها بعد مرور خمس سنوات أو ست. ثم
قدّم لي مخطوط "الميت" قائلا إنه في حاجة إلى مال، فاحتفظت بالنص القصير
جدا لسنوات عديدة دون أن أعرف ما عساني أفعله به إلى أن طلبتُ من بيار فوشو ذاك
التصميم المذهل لـ "حكاية العين" و"الميت" فبيعا في صناديق
صغيرة.
- ثم كان "دموع إيروس"، وهو كتابه
الأخير...
* تمَّ ذلك عندما اشتد المرض بجورج
باتاي. كان مرعبا وآسرا، هذا النوع من التفكك الفكري كان مروعا. انتزع لو دوكا
الكتاب من باتاي قسطا قسطا: كان يحمل إليه المسودّات التي كان يتولى لو دوكا تصحيحها
شخصيا، ثم يسأله عما إذا كانت مطابقة لرغبته، إلاّ أن الكتاب مُنعَ.
ثم
بعد موت باتاي، بدأ الحديث عنه، فكان نص "أمي" أول كتبه يصادف رواجا (بيعت
منه 35 ألف نسخة في ستة أشهر)، وقد تحقق ذلك لكونه رواية بالإضافة إلى صدور مقالات
طويلة حول باتاي.
وحالما
تألقت شهرته، اختلق الناس قصصا حول حياته: روى لي بعضهم أشياء – لا أعرف هل صحيحة
كانت أم خاطئة؟- عن الأوساط المتهتكة والماجنة التي كان يرتادها.
- مع أنَّ باتاي كوَّن علاقات بأناس متنوعين جدا: من الأكثر استقامة إلى
الأكثر إثارة للريبة.
* نعم، مثل علاقته بشات، تلك
الشخصية المدهشة التي سأتحدّث عنها في مذكراتي. وشات هذا كان بائع كتب في بيته بشارع
مونمارتر، وكان أحد اختصاصاته الكتب الإيروسية التي كانت آنئذ تُهرَّبُ، وتباعُ
سرَّا. مثّل شات الصورة النمطية للمهووس جنسيّا: وهو يتبدّى كذلك على نحو مذهل،
رغم كونه رجلا صاحب أخلاق وتربية رفيعين. فحينما كنّا نزوره، كان علينا أن ننقر
على الباب بطريقة متفق عليها، ثم نقف قبالته كي يتسنى له رؤيتنا من ثقب الباب، وكان
يتعين علينا أن نعلن عن أنفسنا. وكان شات على حق في كل تلك الإجراءات، لأنه كان من
الضروري للمتخصّصين في بيع الكتب الإيروسية آنذاك أن يلزموا الحيطة والحذر. كان شات
صديقا حميميا لباتاي ويعرف لور. كما حدّثني عن حكايات جرت له مع فوتريي.
كان
باتاي، في حوالي سنة 1930، شابا وسيما جدّا بما يتفق مع الموضة، إذ كان أنيق
اللباس وحازم الملامح في آن، كما كان أيضا ذاك الرجل الذي يتحدّث عن القديس أوغسطين
ويستشهد به في نصوصه. ذات مرّة، وأثناء عشاء عند بيير كلوسوفسكي، خاض الاثنان نقاشا
لاهوتيا، فلم يتفقا على الإطلاق: تبادلا الاستشهادات، ثم واصلا النقاش باللاتينية،
في حين صمت الباقون...
- زخرف بعض كتب باتاي رسامونَ مثل فورتيي وبالمير وهارولد وماسون،... ما الذي
دعا إلى ذلك؟
يجب
أخذ الأمر على بساطته. كان ذلك لحاجتنا الماسة إلى المال. كان شات هو من ينشر الكتب
السرية كقصة "مدام إدواردة". ففي هذا الكتاب، على سبيل المثال، تعلق الأمرُ بنوع من
التركيب لنضمن قسطا من المال للرسام جان فورتيي، وآخر لجورج باتاي، ثم شيئا لي.
أمّا
باتاي، فلم يكن يعير اهتماما كثيرا لهذا الجانب. لما سلمني نص الميت، تمَّ التفكير
لبرهة في إصداره مرفقا بصور، وكان بإمكان أي رسَّام أن يتولى العملية، وعندي
انطباع بأن الأمر عند باتاي كان سيان. فهو من صنف الكتّاب الذين يقدّمون المخطوطة
لناشريهم ويتركون لهم أن يتدبّروا أمر إصدارها كما يشاءون.
- إلى ماذا تعزو هذا التأثير الذي يمارسه فكر باتاي اليوم؟
* أتساءل، بمراجعة الأمر، ما إذا
كنا إزاء فكر يشتغل بصيته بقدر ما يعمل بنفسه. القليل من الناس يتباهونَ بأنهم قد
فهموا فكر باتاي؛ شخصيا، لا أجازف بادعاء ذلك، ذلك أنَّ فكر باتاي ليس قطعيّا
البتة. فمثلا، عندما كتب أن "الإيروسية هي إقرار للحياة حتى داخل الموت"
ماذا كان يعني بذلك؟ باتاي لم يجب أبدا. والنقطة المحدَّدة الوحيدة التي تمكنتُ من
الحصول على تعليق منه عليها هي الخطيئة... كان يرفض دوما الإيضاح، كان مساره شعريّا
أساسا، وكان يتحاشى أو لا يقوى على تفسير أي شيء؛ كان ينقل إلى القارئ حالة تطابقُ
قلقا عميقا.
- وهنا نجد معارضته لأندريه بروتون وأيضا لجان بول سارتر، وإن على نحو آخر...
الفكر
عند باتاي يشتغل منقطعا لذاته، في حين الفكرُ عند بروتون هو وسيط. فكر باتاي ليس
تعليميّا بل هو تفكيرٌ يقترح رؤى ذاتية قد تتضح للآخرين بهذا القدر أو ذاك.
أعجبني
الإثنان، لكني كنتُ أجدني أقرب إلى أندريه بروتون عاطفيّا في البداية، ثم فكريّا
بعد أن أخذني، من خلال قراءتي له كما بلقاءاتي معه، إلى فضاءات كنت أرغبُ في
ارتيادها. أما باتاي، فلم يمنحني من الفضاءات ما كان يمكنني أن أرغب فعلا في ارتيادها،
وكان بإمكانه أن يفعل ذلك لو أفصح عما يريد قوله – وهو ما لم يكن يقوم به على أية
حال.
وتصالحُهما،
في نهاية حياتهما، يبدو مفاجئا، لكنه مفهوم: تساءلَ أناس من تلك القامة في غمرة الشعور
بالبؤس المحيط بهم: إلى من نتحدث ما لم نتبادل الحديث؟ كانا قانطين من مستوى العصر.
من مستوى سارتر، بالتأكيد. وكان الاثنان قادرين على التفاهم، لكن تفاهمَ القط والفأر...
- هل كان لتلك المصالحة طابع عميق؟
حدثني
باتاي عن مصالحته مع بروتون، وقام بروتون بالشيء نفسه... وهي خالصة عند بروتون لأن
باتاي أنهى حياته الفكرية منطويا جدّا ومعتزلا: في اعتقادي، ربما كان يظنُّ بأنه
لم يعد له أي شيء ينقله للآخرين. أمّا بروتون فواصل حضوره في كنف الانفتاح والاكتشاف
والمبادرة: ولا شك أنه قد سعد لأنه لم يمت وهو في خصام مع باتاي الذي قضى في أصقاعَ
تعاظم بُعدها.
المرجع: الماغازينليتيرير، جوان 1987
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق