ترجمة: محمد ميلاد
إن قناعة موريس بلانشو، أو بصفة
أدق قناعته التي يرتضي القول بها، هي أن الكاتب لا يملك سيرة ذاتية. وهكذا يكون قد
ابتدع أسطورة باهرةً مثل كل الأساطير، هي أسطورة كاتب يكون هو نفسه، شخصياً، بلا أي
حد، دون وجه، دون حياة، ويكون أثراً محضاً، ومتضمناً كلياً في آثاره ولا شيء غير آثاره.
لهي أسطورة تلك التي ساهم موريس بلانشو في إشاعتها من خلال التأويل الأسطوري لشاعر
لا ذاتي مثل مالارميه عُرف واجتُرَّ في الستينيات. هذه الأسطورة سايرت فترة
البنيوية التي ستواكب وبصورة عميقة فكرَ بلانشو. وقد استُخدمت هذه الأسطورة بإسهاب
من قبل المعجبين بهذا الكاتب الذين سعوا في الغالب في الستينيات والسبعينيات إلى حمايتها
معتقدين بأنهم يدافعون بذلك عن الكتابة. ومن ثم فقد خدمت كما ينبغي المستنقصين من قيمته
الذين استندوا وقد مالوا آنذاك مع رياح الرجعية المتغيّرة إلى انسحاب هذا الرجل الرافض
لكل ظهور علني (كحضور الندوات وإجراء الحوارات ومقاطعة التلفزيون ونشر الصور الفوتوغرافية)
لكي يجعلوا منه أبرز الداعين للعدمية. ثم جاءت الثمانينيات وما زلنا بقدر ما في حدودها:
وهو أمر يسر بالتأكيد النقد السهل الذي أصبح اليوم رائجا.ً
لنعد الى الموضوع. لم يخلط موريس بلانشو بين الحياة والكينونة أو السيرة. وإذا سمح بانتشار الالتباس في تأويل mésinterprétation فكره فلأنه يعلم أن الخطأ سيضمحلّ في النهاية بنفس السهولة التي جعلته يظهر، كما أنه يرفض التدخل من خلال أعماله بعد أن أتم كتابتها إلا بالكتابة نفسها: وبهذه الطريقة فقد حدث أن أصلح بإسهاب مقالاته وان أعاد كتابة قصصه. وبوصفه معارضاً لعملية التوسط الديماغوجي للأدب فقد اتخذ بعيداً عن كل مصالحة موقفاً يريده على الأرجح أن يكون مثالياً. ولم يمنعه ذلك من أن يكون رجلاً معروفاً وكاتباً ومحرر مقالات في الصحافة الأدبية chroniqueur ومثقفاً ملتزماً: فقد كان خصوصا أهم محرر لـ إعلان حق العصيان في حرب الجزائر الذي يُعرف ببيان الـ121، وقد كتب في العديد من الأجناس ليجددها ويخترقها ويستنفذها مثل الروايات والحكايات والمقالات والحوارات والدراسات والشذور fragments. لقد جاب أرجاء عصره وانتقل من تطرف سياسي الى آخر، مغيّراً قناعاته وهو يبني شيئاً فشيئاً فضاءً أدبياً ونقدياً وفلسفياً بشروط صعبة. لم ينف أبداً شغفه بكتابة المقالات في الصحافة الأدبية مبدياً في الوقت نفسه صرامةً مفرطةً وإجلالاً فائقاً للتفكير المتعدد الأشكال. ويظل أدبه الذي وصف لزمن طويل بالأدب اللاذاتي يستحق كلّه القراءة مجدداً من زاوية السيرة الذاتية. إن السيرة الذاتية لشخص ما والسيرة الذاتية لكاتب معين وربما لنوع من الكتابة: أي ما ظل على الدوام يشغل فكره منذ العام 1942 على الأقل ويشغل كذلك دراسته الأولى القصيرة كيف يكون الأدب ممكناً، هو جينيالوجيا الإبداع الأدبي والفني. ترى ما تكون تلك "العزلة الجوهرية" التي لا شيء يستطيع على ما يبدو إدماجها في الأثر والتي لفرط تعريضها للخطر مع ذلك تقامر بالانجاز الحيوي والسري للكتابة؟
لنعد الى الموضوع. لم يخلط موريس بلانشو بين الحياة والكينونة أو السيرة. وإذا سمح بانتشار الالتباس في تأويل mésinterprétation فكره فلأنه يعلم أن الخطأ سيضمحلّ في النهاية بنفس السهولة التي جعلته يظهر، كما أنه يرفض التدخل من خلال أعماله بعد أن أتم كتابتها إلا بالكتابة نفسها: وبهذه الطريقة فقد حدث أن أصلح بإسهاب مقالاته وان أعاد كتابة قصصه. وبوصفه معارضاً لعملية التوسط الديماغوجي للأدب فقد اتخذ بعيداً عن كل مصالحة موقفاً يريده على الأرجح أن يكون مثالياً. ولم يمنعه ذلك من أن يكون رجلاً معروفاً وكاتباً ومحرر مقالات في الصحافة الأدبية chroniqueur ومثقفاً ملتزماً: فقد كان خصوصا أهم محرر لـ إعلان حق العصيان في حرب الجزائر الذي يُعرف ببيان الـ121، وقد كتب في العديد من الأجناس ليجددها ويخترقها ويستنفذها مثل الروايات والحكايات والمقالات والحوارات والدراسات والشذور fragments. لقد جاب أرجاء عصره وانتقل من تطرف سياسي الى آخر، مغيّراً قناعاته وهو يبني شيئاً فشيئاً فضاءً أدبياً ونقدياً وفلسفياً بشروط صعبة. لم ينف أبداً شغفه بكتابة المقالات في الصحافة الأدبية مبدياً في الوقت نفسه صرامةً مفرطةً وإجلالاً فائقاً للتفكير المتعدد الأشكال. ويظل أدبه الذي وصف لزمن طويل بالأدب اللاذاتي يستحق كلّه القراءة مجدداً من زاوية السيرة الذاتية. إن السيرة الذاتية لشخص ما والسيرة الذاتية لكاتب معين وربما لنوع من الكتابة: أي ما ظل على الدوام يشغل فكره منذ العام 1942 على الأقل ويشغل كذلك دراسته الأولى القصيرة كيف يكون الأدب ممكناً، هو جينيالوجيا الإبداع الأدبي والفني. ترى ما تكون تلك "العزلة الجوهرية" التي لا شيء يستطيع على ما يبدو إدماجها في الأثر والتي لفرط تعريضها للخطر مع ذلك تقامر بالانجاز الحيوي والسري للكتابة؟
تبنّى هذه المسألة الملحة عدد كبير جدا
من الكتاب والفنانين من بين أهم كتاب القرن الماضي الذين تعلّقوا بهذه الأسئلة لأنها
كانت أسئلتهم الخاصة وقد طرحوها على أنفسهم دون أن يستعرضوها وكانت تقود عملهم الإبداعي
الحسي أو المفاهيمي، المشخص أو المجرد، الأدبي أو التشكيلي. وقد كان كتاب الفضاء الأدبي
في الخمسينيات الكتاب المقروء أكثر من غيره على الأرجح من المبدعين النشيطين أو الناشئين
الذين اعترفوا بالكلمات التي وفق بلانشو في التوصّل إليها للتعبير عن التدفقات
والانهيارات وعن الخطوط والتعرّجات في الإبداع الأدبي والفني. كما طالع البعض منذ الثلاثينيات
أو الأربعينيات المقالات الأولى التي كتبها بلانشو في الصحافة الأدبية وكذلك
أولى رواياته. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء، ولنبدأ بأسماء أكثر أصدقائه قرباً منه الذين
فكّر بلانشو وكتب صحبتهم وهم: ليفيناس، باطاي، أنتيلم.
ولنذكر ثانيا الأصدقاء الذين يعلنون دائما انتسابهم إليه مثل فوكو ودريدا
ونانسي وماسكولو ولابورت ونادو وبارت وغوادار
وريغي؛ ثم الأصدقاء الذين احتفوا به في مناسبات عديدة بشكل مؤثر: مثل شاروبولان
ولاكان ودوراس ودي فوريه ودولوز وبيكيت وديبان
وكلوسوفسكي. ويحضر في أذهاننا كذلك أصدقاء مثل سارتر وليريس اللذين
لم يكونا قريبين منه لكنهما لم ينكرا مع ذلك قوّة فكره. كما نتذكر أصدقاء مثل آرتو
او ميشو اللذين توصلا دون أن يتحدثا عنه مباشرة إلى أن يجوبا مجالاته نفسها
جملةً جملةً أحياناً وكلمةً كلمةً تقريباً(1).
بداية من الستينيات وحتى الآن يتزايد
عدد الذين يتوصلون إلى اكتشافه. ونقرّ اليوم صورة أفضل في كل مرة بشروط آثار قد توجت
نشاطه النقدي بعملين اجماليين استثنائيين هما "المحاورة اللانهائية" L’Entretien infini (1969) و"الصداقة" L’Amitié (1971)؛ كما أن الأجيال الجديدة تقدم أكثر
فأكثر على قراءة الروايات والحكايات récits التي مهّدت للتفكير في الابداع ثم واكبته من خلال رسم الحياة
الشبحية والمتقلبة لـ "صور في طور التحوّل" figures métamorphiquesأو هي مقدسة، أي لصور كاتب أو بالأحرى لصور كتابة منزوية
في نوع من الصمت المحتدم، القادرة على الكثير من الفرح واللمسات غير المنتظرة. وقد
انتقل بلانشو من قريحة القصص الخيالية fictions الأولى التي ينتمي إليها كتاب "الأعلى" (1948)
Le Très-Haut ، إلى قريحة حكايات أكثر اقتضاباً،
لا تسجن نفسها في عالم واحد، وتتمحور حول الشكل المكثّف واللامسمّى للمحاورة. ومن كتاب
"قرار الموت" (1948) L’arrêt de mort إلى كتاب "الانتظار النسيان" (1962) L'Attente l'oubli،
ثم "المحاورة اللانهائية" (1965) وهو النص الذي أُعيد نشره في مقدمة المجموعة
الحاملة للاسم نفسه، فإن الكتابة تتمركز حول بعض الأحداث الطفيفة والمتفجّرة وحول أصدائها
داخل الأجساد والضمائر. إننا نشهد تناوباً بين مواجهة عاطفية وايروسية ووديّة وحلمية
عجيبة واستيهامية بين شخصين أو ثلاثة أشخاص. يتعقّب بلانشو لدى رجال ونساء على عتبة
جنون الهوى أو الموت، ما يستطيع أن يصمد بينهم، انطلاقاً من تلك اللحظة المخاتلة التي
يجد فيها كلّ واحد منهم في الآخر مسافة لا تُختزل، ووسيلة نهائية وفرحاً عظيماً ويدعو
الى فهم ما قد يستطيع المرء كتابته في هذا المجال. إن أعمال بلانشو قد غذّت العصر وأخصبت
العديد من الأفكار وذلك بواسطة طاقتها الخلاقة وحضورها المتناقض مع الأحداث التاريخية
والأضواء الجديدة التي أشاعتها حول نصوص ضرورية جداً بالنسبة إلى "الحداثة"
مثل نصوص نيتشه وهيغل وهيدغر وهولدرلين ورامبو
ومالارميه وفاليري وريلكه وكافكا وصاد ولوتريامون،
إذا أردنا الاقتصار على المعاصرين (وينبغي كذلك أن نضيف هيراقليطس وسيرانو
وراسين وروسو وريتيف...)(2).
ولكي يؤكد بلانشو حضوره في العصر، لم
يكن يحتاج في النهاية إلى أكثر من ربع قرن. فقد نشر بين سنتي 1937 و1962 ثلاث روايات
و10 حكايات و7 بحوث و412 مقالة وبعث آلاف المراسلات الخاصة تقريباً. إن أهمّ أعماله
تقع في حدود تلك الفترة. لكن ماذا عن الفترة السابقة والفترة التالية؟
في العام 1937 بلغ عمر بلانشو ثلاثين سنة: وهي السنة التي وضع فيها حدا لأكثر توقيعاته السياسية عنفاً ليقرّر تكريس نفسه للأدب وسيحتاج لمزيد من الوقت ليبتعد نهائيا عن مورّاس أو مولنييه وعن مونتيرلان أو جيرودو ليتجه نحو الكتابة حول وولف وجويس ومالارميه وميشو وفرويد ونيتشه وميلفيل أو لوري ليبرهن عن عناية متيقظة دوماً بمعاصريه مثل دوراس وليريس وفاردوليس- لاغرانج وتوماس ودي فوريه وبيكيت(3). وقد كان في الغالب أوّل من يكتشفهم أو من الأوائل الذين يكتشفونهم. ونشاطه ككاتب مقالات في الصحافة الأدبية لم يتوقّف كما أن حضوره الخفي -والحاسم مع ذلك- في لجان التحكيم الأدبيّة وذلك الابتعاد عن حياة المجتمع لم يمنعاه من تكوين تفكير متفرّد أكثر فأكثر بقدر ما زاد هذا الأخير حياداً. الحياد: تلك هي المسألة. إن قوة الابداع التي يبرهن عليها تفكير بلانشو طوال هذه السنين تجد ما يدعمها حول هذا المفهوم الغريب الذي أهملته الفلسفة في الغالب وسفسفته السياسية مع أنه على قدر عجيب من الغنى وقادر على إثارة فعالية لانهائية. محايد هو الابداع ولا يمكن الاعتراض عليه وهو متمرّد على كلّ مقولة وعلى كلّ صلة قرابة. ومحايد هو "حساب ما لا يحسب نهائيا"la part du feu وهو ما يغذّي طاقة الابداع وروح المغامرة في التجربة الإبداعية. وسيذكّر دولوز بذلك في تقديمه لـ "النقد والعيادة" Critique et clinique قائلا: «لا يبدأ الأدب الاّ عندما يولد فينا الشخص الغائب une troisième personne الذي يخلّصنا من سلطة قول أنا ("الحياد" le neutre بالنسبة الى بلانشو)». إن الأمر يتعلّق بشخص غائب غير محسوس ومبدع، يشخّص ويحرّف ويرسم كلّ أشكال الصيرورات. ففعل الابداع يصبح حيادياً ومتفرداً في الوقت نفسه: وسيحاول بلانشو في نصوصه النقدية أن يحدد نسبة مساهمة الحياد في كل إبداع متفرّد؛ وسيصف في حكاياته recits الفعل غير المسمّى الذي تنحلّ عبره المعاناة المنفردة داخل تجربة غير محدودة.
في العام 1937 بلغ عمر بلانشو ثلاثين سنة: وهي السنة التي وضع فيها حدا لأكثر توقيعاته السياسية عنفاً ليقرّر تكريس نفسه للأدب وسيحتاج لمزيد من الوقت ليبتعد نهائيا عن مورّاس أو مولنييه وعن مونتيرلان أو جيرودو ليتجه نحو الكتابة حول وولف وجويس ومالارميه وميشو وفرويد ونيتشه وميلفيل أو لوري ليبرهن عن عناية متيقظة دوماً بمعاصريه مثل دوراس وليريس وفاردوليس- لاغرانج وتوماس ودي فوريه وبيكيت(3). وقد كان في الغالب أوّل من يكتشفهم أو من الأوائل الذين يكتشفونهم. ونشاطه ككاتب مقالات في الصحافة الأدبية لم يتوقّف كما أن حضوره الخفي -والحاسم مع ذلك- في لجان التحكيم الأدبيّة وذلك الابتعاد عن حياة المجتمع لم يمنعاه من تكوين تفكير متفرّد أكثر فأكثر بقدر ما زاد هذا الأخير حياداً. الحياد: تلك هي المسألة. إن قوة الابداع التي يبرهن عليها تفكير بلانشو طوال هذه السنين تجد ما يدعمها حول هذا المفهوم الغريب الذي أهملته الفلسفة في الغالب وسفسفته السياسية مع أنه على قدر عجيب من الغنى وقادر على إثارة فعالية لانهائية. محايد هو الابداع ولا يمكن الاعتراض عليه وهو متمرّد على كلّ مقولة وعلى كلّ صلة قرابة. ومحايد هو "حساب ما لا يحسب نهائيا"la part du feu وهو ما يغذّي طاقة الابداع وروح المغامرة في التجربة الإبداعية. وسيذكّر دولوز بذلك في تقديمه لـ "النقد والعيادة" Critique et clinique قائلا: «لا يبدأ الأدب الاّ عندما يولد فينا الشخص الغائب une troisième personne الذي يخلّصنا من سلطة قول أنا ("الحياد" le neutre بالنسبة الى بلانشو)». إن الأمر يتعلّق بشخص غائب غير محسوس ومبدع، يشخّص ويحرّف ويرسم كلّ أشكال الصيرورات. ففعل الابداع يصبح حيادياً ومتفرداً في الوقت نفسه: وسيحاول بلانشو في نصوصه النقدية أن يحدد نسبة مساهمة الحياد في كل إبداع متفرّد؛ وسيصف في حكاياته recits الفعل غير المسمّى الذي تنحلّ عبره المعاناة المنفردة داخل تجربة غير محدودة.
إن الحياد يحدّد بدقّة شرط الأدب نفسه
وممارسته وإمكانيته وبدايته وتلك الحركة الدائمة التي تخرّب أدنى هويّة وترسم خطوط
القوّة وملكة التمييز والانحناء والانزياح والانجذاب والنفور. كلمة الحياد تفرض نفسها
شيئاً فشيئاً: ويتوصّل بلانشو في النهاية إلى أن يجعل من الاسم صفة ويكتبه أحيانا
بالحرف الكبير: le Neutre وهو اسم بلا ماهية [لا يستند الى ركيزة]، دائم التحوّل، وهو
يعبُر الخصوصيات بدلا من غلقها وتشكيلها. فالحياد هو الملزمة اللامرئية التي تتيح بناء
أو تشكيل فضاء جمالي لا علامة استدلال فيه ولا بوصلة: أي أنه نقطة في حركة دائمة قادرة
على جذب انتباه القارئ، ذلك القارئ الخفيف الحركة الذي يؤدي حول النص "رقصة سريعة"،
كما يقول بلانشو في "الفضاء الأدبي"، وهي «رقصة سعيدة، تعبّر عن أقصى
درجات الولع يؤديها القارئ مع شريك لا مرئي في فضاء منعزل، إنها رقصة مع "القبر".»
بقوة الكتابة إذن أي بقوتها الحيادية
يكون بلانشو قد قطع تدريجيا وبصورة واضحة ونهائية مع تفكير وعمل قائمين على
مقولات تماثلية محضة catégories identitaires، من ميثولوجيات التفرّد إلى ميثولوجيات
الجماعة Communauté. وسيعبّر هو نفسه عن ذلك في فاتحة كتابه خطوة أبعد: Pas au-delà Le «الكتابة بوصفها سؤال
كتابة وهو سؤال يحمل الكتابة التي تحمل السؤال، لم تعد تتيح لك تلك العلاقة مع الكينونة
وهي تعني أولا التقليد المكرّس والنظام واليقين والحقيقة وكل شكل من أشكال التجذر التي
تلقيتها يوما من ماضي العالم.»
يفترض فهم الحياد انقطاعا في الانطولوجيا
سيصفه بلانشو عند ليفيناس بأنه «انقطاع [حقيقي] للكينونة أي غيرية لا
يكون [الآخر] بواسطتها بالنسبة إلي -وينبغي هنا التذكير بذلك- أنا آخر un autre moi ولا وجود
آخر ولا صيغة أو لحظة وجود كوني ولا وجود على Surexistence،
إلاها او لا إلاها، بل هو المجهول في مداه اللانهائي». لكن بلانشو يدفع ميزة
هذا الانقطاع الى الأمام محافظا عليها "ضمن تسمية العراء nudité"(4). وهو ينوي من جانبه الحفاظ
في مكان آخر على العراء المفرغ من كل علاقة إنسانية ولا تماثل dissymétrie كل لغة. هكذا يصبح
الحياد محركاً فلسفياً فاعلاً: ويتفحص بلانشو وليس دونما عنف، غير ودي (بحسب
هيدغر) وأخوي (بحسب ليفيناس) النصوص التي استند إليها لبلوغ تلك النقطة
التي سماها مع روبير انتيلم Antehme المتعذر هدمه l’indestructible. نحن الآن في سنة 1962، المقال حول "النوع البشري" L’Espèce humaine ينضم الى تعريف آخر للحياد ربما لا يعرف بلانشو حتى
الألفاظ التي صاغ بها آنتيلم هذا التعريف، وهي ألفاظ مستعملة في رسالة خاصة
بتاريخ 1949 أو 1950 موجهة الى ديونيس ماسكولو الذي سينشرها بعد أربعين عاما
تقريبا: «ديونيس، أريد ان أقول لك أنني لا أفهم الصداقة بوصفها شيئاً ايجابياً،
أي باعتبارها قيمة، بل أنني أذهب الى أبعد من ذلك، أي إلى أنها بالنسبة إليّ حالة وتماه
وهي بالتالي مضاعفة الموت ومضاعفة المساءلة وهي بصورة خارقة المكان الأكثر حياداً الذي
ندرك انطلاقاً منه ونحس ثابتةَ المجهول، والمكان الذي لا يحيا فيه الاختلاف حول أشدّ
ما فيها مثلما قد نفهم المجهول، والمكان الذي لا يحيا فيه الاختلاف حول أشدّ ما فيها
مثلما قد نفهم ذلك في نهاية التاريخ»، ولا يتفتح إلا في صميم نقيضه أي بجوار الموت(5).
سنة 1962 هي إذن السنة التي ينشر فيها
بلانشو مقالته حول "النوع البشري"، وعنوانها "المتعذر هدمه"؛
وهي السنة التي يكتب فيها احتفاءه بـ جورج باطاي وقد رحل، تحت عنوان "الصداقة"؛
وهي السنة التي تشهد ظهور كتابه الأول في شكل شذور: "الانتظار النسيان"،
الذي يعلن أيضا نهاية المرحلة السرديّة؛ وهي أيضا السنة التي تأخذ فيها منعرجاً حاسماً
الخلافات التي ستذهب بمشروع المجلة العالمية التي مهّد لصدورها مع ماسكولو وفيتوريني Vittorini وتعلّق
بها كثيرا(6).
وهكذا يغيّر الأثر ايقاع تكوينه كما
يغيّر ايقاع صدوره. تقلّ كثافة المقالات وتحتجب الكتابة في الصحافة الأدبية وتنزع النصوص
نحو مزيد من التشذّر وتتخذ الكتب بالتدريج شكل الكتيبات. ويأخذ الموت الأصدقاء الواحد
تلو الآخر وتتعدد نصوص التكريم. ويذهب الانتكاس بالمثقفين الواحد تلو الآخر ليأتي زمن
اتخاذ المواقف من حركة قرن من التاريخ والفكر. لانهيار الايديولوجيات الشيوعية والميثولوجيات
الروحية communielles على الحفاظ على لزوم وضرورة فكر جماعوي communautaire وإن تعلقاً
في البداية بـ "جماعة دونما جماعة" communauté sans communauté،
طرح سؤالا يقع بين السياسة والأدب هو صدى لنصّين: الأول لـ جون لوك نانسي والثاني
لـ مارغريت دوراس، كما أنه يتحدث أيضا عن الثلاثينيات وعن جورج باطاي.
ونراه من خلال كتابيه "خطوة أبعد" Le Pas au-dela و"كتابة الكارثة" désastre حيث يمزج
التفكير التخييلي بالتفكير المفاهيمي ويكتب نصوصا لم يقدّر أحد حتى الآن وزنها التاريخي
والفلسفي والأدبي (وهي لا تزال بلا تعليق).
إن إعادة قراءة هذه الآثار الضخمة اليوم
ليست أمراً بسيطاً. والسبب لا يعود الى ما تستوجبه هذه الآثار: فأعمال نيتشه
وليفيناس وبيكيت أو آرتو ليست أقلّ سهولة. كما أنه لا يعود الى
روح هذا العصر الذي ينزع نحو فقدان حسّ الضرورة: فالنصوص العظيمة تجد في النهاية صيغها
الخاصة للوصول. بل ما ينقص اليوم هو ببساطة الأداة. فثلث آثار بلانشو يظل من
الصعب بلوغه في المكتبة: ويمثل رواية ومئات من المقالات. وإنني لا أتحدّث عن دراسة
دقيقة للنصوص الأخرى غير المألوفة والهامة أحيانا التي تتوسط النصوص الأصلية والنصوص
المنشورة بصورة نهائية؛ كما إنني لا أتحدث عن التحيين الضروري contextualisation للمقالات
والروايات القديمة؛ أو حتى عن المراسلات في النهاية. ما ينقص باختصار هي الأعمال الكاملة.
وقد سبق وأن فكّر بلانشو في ذلك قبل سنتين من وفاته بالتشاور مع مونيك آنتيلم
وجاك دريدا. وقد تشكّل تلك الأعمال مثل أعمال جورج باطاي الصادرة في
السلسلة البيضاء عن غاليمار 12 جزءا تقع فيما بين خمس وثمانمئة صفحة. فماذا تنتظر؟
(ماغازين ليترير/ أكتوبر 2003)
(*) كريستوف بيدانت Bident أستاذ محاضر
في جامعة باريس 7- دنيس ديدرو، من كتبه المنشورة: موريس بلانشو، الشريك الخفيّ
(منشورات champ Vallon، 1998)
وبارنار- ماري كولتيس، أنساب ومسألة اعتراف (منشورات Généalogies Farrago، 2000) (منشورات Calmann-Levy، 2003)
هوامش:
هوامش:
(1) Lévinas/ Bataille/ Antelme/
Foucault/ Derrida/ Nancey/ Mascolo/ Laporte/ Nadeau/ Barthes/ Godard/ Levinas/
Régy/ Char/ Paulhan/ Lacan/ Duras/ des Forêts/ Deleuze/ Beckett/ Dupin/
Klossowski/ Sartre/ Leiris/ Artaud/ Michaux.
(2) Hegel/ Heidegger/ Holderlin/
Rimbaud/ Mallarmé/ Valéry/ Rilke/ Kafka/ Sade/ Lautréamont/ Héraclite/ Cyrano/
Racine/ Rousseau/ Rétif.
(3) Maurras/ Maulnier/
Montherlant/ Giraudoux/ Woolf/ Joyce/ Mallarme/ Nietzsche/ Melville/ Lowry/
Fardoulis- Largrange/ Thomas/ Beckett.
(4) Maurice Blanchot,
« L’interruption ». L’entretien infini, éd. Gallimard, p. 109.
(5) من رسالة
كتبها روبير انتيلم، ذكرها ديونيس ماسكولو في كتابه سعيل للتذكر Autour d’un éffort de mémoire، منشورات موريس نادو، 1987، ص. 23/24.
(6) يمكن
الإطلاع بهذا الصدد على الرسالة التي كتبها موريس بلانشو لروبير انتيلم (27 فيفري
1963 وهو تاريخ ختم البريد) بالرجوع إلى العدد 424 من "ماغزين ليترير"،
أكتوبر 2003، ص 41.
المرجع: كريستوف بيدانت، إسهام السيرة
الذاتية؛ موريس بلانشو "منزوياً"، مجلة كتابات معاصرة، العدد 54، المجلد
الرابع عشر، تشرين 1- تشرين 2- 2004، ص 48-51.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق