ترجمة
النص عن الألمانية: رشيد بوطيب
«من المهم أن لا يترك المرء سبل الغرائز تنمو خلفه» أندريه
بروتون
لوحة الرسام السوريالي ويلهام فريدي |
كتب جاك بريفر الذي اعتنق السوريالية عهدا من الزمن: «حين تصبح الحياة مملّة، فإن الموت يضحى
تسليتها الوحيدة». بيان يقدّم لنا
دليلا دامغا عن قرن من الصراعات الدموية، الاستعمار الذي حطّ من قدر الانسان،
حربان عالميتان وعدد لا يحصى من الكوارث التي تسببت بها الحضارة الغربية. بالنسبة
للسورياليين فإن الحضارة تمثّل في النهاية للانسان وعالمه تقدّما خاطئا ومدمّرا،
ولذلك فإن شغلهم الشاغل كان هو القضاء على كلّ أشكال النظام بالغرب المسيحي، سواء
كانت سياسية، اقتصادية، فلسفية، فنية، سيكولوجية أو أخلاقية: الهدف هو ثورة شاملة
على كلّ مجالات الواقع. ففي رأي السورياليين يمسّ مشروع هدم الثقافة الغربية
المسيحية كلّ المجالات المحددة لتصورات الإنسان الغربي. إنّ هذه التصورات عن
العالم هي بعكس التصورات الشرقية التي تفهم الواقع ككلّ مستمر وغير قابل للتجزئة:
ثنائية، وتفكير يقوم على التضاد المطلق والتناقض الدائم، تفكير لا يتوقّف عن تشييد
الأسوار. تصورات تمزّق الواقع، في اللحظة التي تفرّق فيها بحدّة بين الإنسان
والعالم، المادة والروح، الطبيعة والثقافة، الحلم واليقظة، الشعور واللاشعور،
الواقع والخيال الخ... ونظرا لأنّها تطرد من عالمها هذه المجالات الواسعة،
المنفصلة اعتباطا عن بعضها البعض، معتبرة إيّاها لاواقعية، تختزل بذلك الواقعي
وتسلب الإنسان كلّيته. وبسبب من ضيق أفق وأحادية بعد النظر الغربية المسيحية إلى
العالم، التي هي في نهاية المطاف، ليست سوى انتاج مستمرّ للموت، تحدث أندريه
بروتون منظّر السوريالية الرائد في
وقت مبكر عن وضاعة الفكر الغربي، الذي كان يحسّه دائما كشكل من أشكال السخرة
والإكراه. ومن هنا فإن الأمر يرتبط بالنسبة للسورياليين منذ البداية بالثورة على
الواقع القائم، "بالتحرير الكامل للعقل" كما كتب أنطونين
أرطو سنة 1925 «حتى لو استدعى الأمر استعمال مطارق مادية» أو كما أعلن رامبو: «إن الحياة الحقيقية
هي بمكان آخر». مشروعهم الثوري
هذا، هو الذي دفعهم إلى التحالف مع الحركة البلشفية، وإن كانت أهدافهم تتجاوز أفق
هذه الحركة. إن السورياليين يهدفون إلى الوقوف ضد انكماش الواقع وغربة الانسان في
الثقافة الغربية، وهذا يعني من جهة أولى، إعادة صياغة الواقع بكل غزارته وتعدّده
اللانهائي، ما أسماه السورياليون: "سوريالية" أو "السحر" دون
أن يعني ذلك بأي حال من الاحوال شيئا ميتافيزيقيا متجاوزا للواقع. ومن جهة ثانية
إعادة كلّ ما سرقته "سيرورة الحضارة" من الإنسان: عواطفه وغرائزه، لا
عقلانيته، جسديته وبشكل ما "توحشه".
"السوريالية" يوضح جان شوستر، أحد روّادها بمرحلة ما بعد الحرب «هي الآخر في الحضارة الغربية، الآخر الداخلي، الذي يدخل في علاقة عاطفية
ولاعقلانية مع الآخر الخارجي، ما يصطلح عليه "بالمجتمعات البدائية"
(...)» والواقع فإن
السورياليين يعلنون بوضوح نيتهم أن يكونوا "بدائيين معاصرين" وتصوّرهم
عن العالم يظلّ تصورًا سحريًّا. ولكنهم يريدون أيضا –ولا يمثل هذا بالنسبة لهم أي
شكل من أشكال التناقض- أن يكونوا جدليين معاصرين. إن الأمر يتعلّق، يكتب بروتون: «بتسليط الضوء على
فنية التناقضات القديمة، بكلّ الوسائل ومهما كلّف الثمن (...) فكلّ شيء يدفعنا
للاعتقاد بوجود مكان عقلي محدّد، نستطيع انطلاقا منه، التوقّف عن اعتبار مفاهيم
مثل: حياة وموت، واقعي وخيالي، ماضوي ومستقبلي، ما يمكن الاخبار عنه وما لا يمكن،
فوق وتحت، جملة متناقضات». وعبثا سيبحث المرء عن دافع آخر لجهود السورياليين خارج الحلم والرغبة
بتحديد هذا المكان.
ومن أجل استعادة الكليّة الممزقة للانسان والواقع، كان من
الضروري اكتشاف من جديد واسترجاع كلّ ما همشته النظرة الثنائية إلى العالم: الواقع
المعتم والمحجوب والكامن بالإنسان نفسه وخارجه. وهكذا فإن عمل السورياليين منذ
البداية هدف أساسا إلى البحث وإضاءة هذه المجالات المحجوبة للواقع، وهذا ما يحدّد
مطلبهم من أجل تحقيق "إضاءة" عبر كلّ نشاطاتهم التنويرية. ومن بين الطرق
التي يمكن عبرها الوصول إلى تحقيق هذا الهدف –رسم وتحليل الأحلام مثلا- يبرز
الطريق الذي عبّده التحليل النفسي، الذي كان في ذلك الوقت بَعْدُ في بداياته،
والذي أولاه السورياليون اهتماما كبيرا ومنذ وقت مبكر.
ومثل فرويد وأتباعه اهتم السورياليون بتجاوز "الظاهر"، تجاوز حدود الواقع
كما يرسمها الشعور، من أجل النفاذ إلى "الباطن"، إلى اللاشعور، إلى
الأحاسيس والغرائز الأولية: الخروج من "الحضارة" والعودة إلى
"الطبيعة"، يحدوهم أمل توحيد كلّ المجالات التي تمّ التفريق بينها
بطريقة اصطناعية، ومن خلال هذا التوحيد أو هذه التوليفة يتم تأسيس انسانوية متعدّدة
الألوان. إن السوريالية تهدف كما عبّر بروتون «إلى استعادة كلّ
طاقتنا النفسية بطريقة ليست شيئا آخر غير انحدار مسبب للدوران بأعماق ذاتنا» وليس هذا الانحدار مرتبط فقط بالفن ولكنّه أصلا بحث علمي مقارن، لا يهتم
فقط بالابداع الفني ولكن «يبغي الكشف عن الجزء غير المعروف –وفي نفس الآن القابل للمعرفة- لوجودنا
حيث الجمال والحب والطاقة، هذه الأشياء التي لا نعرفها بطريقة جيدة، تشتعل بالضوء».
إنّ أول منهجية تمّ اعتمادها منذ سنة 1919 والتي في نظر السوريالية
تساهم في تقصّي المجهول بالإنسان، والتي ستعقبها بعد ذلك منهجيات أخرى، هي ما
اصطلح عليه بالكتابة الأوتوماتيكية والتي تهدف إلى هدم ميكانيزمات التفكير
المتعلمة والنظرة إلى العالم التي صنتعتها التربية، عن طريق تعطيل كامل لوظيفة
الوعي، حتى يتمّ إخلاء الطريق لعملية ذهنية أخرى، "حرّة من كلّ قيد"،
تحريرها من المراقبة الكاملة للوعي. يؤكد السورياليون أن الدينامية النفسية–العقلية
لا تعمل بطريقة عقلية، منطقية–سببية، مفهومية-خطية الخ.. ولكن –تماما كما في
الحلم- لاعقلية، لامنطقية، تماثلية، تصورية: إنه يتخيّل، هذا يعني أنه "يفكّر"
عبر الصور والاستعارات والرموز. وإذا تمّ بحث طبيعة هذه الظاهرة عن قرب، سيتبين
بأن الميزة الجوهريّة لهذه الصور اللاواعية هي كونها منفصلة عن بعضها البعض،
متناقضة، وبالنسبة للوعي "العادي" مستحيل الجمع بينها. وخارج ميكانيزمات
التفكير الثنائية الموروثة، يؤسس "العقل" كما لاحظ السورياليون، لواقع
آخر، لعالم بقوانينه الخاصة به، حيث لا مكان لحواجز أو تناقضات لا يمكن تجاوزها
بين الجواهر والأشياء، بل إنه يسعى للتوحيد بينها، أجل للتوحيد بينها. وهكذا ينتهي
السورياليون إلى فهم للعالم هو في الواقع سحري وبمعنى أوسع إيروتيكي. الصورة هي
إذن وسيلة معرفة –بروتون تحدث عن "ضوء الصورة"- فهي أصل النظرة غير
المألوفة إلى الواقع ككلّ لا ينفصم ولا يتجزأ. وفقط هذا الكلّ هو بالنسبة
للسورياليين واقعا (أو "فوق واقع")، كلّ يسمح بوجود إنساني غير مستلب،
"بحياة حقيقية" كاملة وسلمية، وفي معنى غير ترنسندنتالي البتة، بوجود
مقدّس.
عجائبية هذا الامتلاء الوجودي، الذي ترفع فيه كلّ التناقضات
-وأيضا تناقضات الذات والموضوع، الوعي واللاوعي، الأنا والهو- يتحقّق ذلك فقط حين
التخلّي عن الوعي، يعني ذلك عن الشخصية، عن الأنا. بل إن الأنا المنفصلة، المستقلّة،
هكذا بدا للسورياليين، الأنا المطلقة التي تمثّل أساس النظرة إلى العالم الغربية
المعاصرة، هي مجرد أنا مصنوعة، ومكوّن اعتباطي للفكر الثنائي. ففي مجال الواقعي،
السحري والكلّي، لا توجد أنا منفصلة: الأنا المستقلّة هي مجرّد وهم. هذا
"التحرير للأنا عبر النشوة"، هو «كشف مدنس» قال والتر
بنيامين سنة 1927 وتابع: «إن السوريالية تهدف في كلّ كتبها ومشاريعها إلى كسب قوى النشوة لصالح
الثورة» ومنذ الرومانسية
التي تطورت عنها السوريالية، كانت هذه النشوة هدف النشاط الانساني، وخاصة هدف
الشعر، الذي كان «أكبر هدف له» كما أوضح نوفاليس: «رفع الانسان فوق ذاته». الرومانسية والسوريالية، أشكال تمظهر الفكر السحري –الواحدي، هما دروس
النشوة والوجد، وينتميان كذلك للبنية المقموعة من طرف التقليد الفكري الغربي
"الرسمي".
ومع اكتشاف الحضور المبهم للصورة، سيجد مفهوما:
"الأدب" و"الفن" وقد نُظر إليهما بعين نقدية في المرحلة
الدادائية للسوريالية، مرحلة الأدب المضاد والفن المضاد، سيجدان من جديد سبيلا إلى
أفكار السورياليين الثائرة على كلّ نظام. إذ أن السورياليين سيكتشفون بأن الجوهر
الحقيقي للنشاط الفني، الذي لفّه النسيان في التقليد الفكري الغربي المسيحي، لأن
المسيحية نظرت إليه كأداة للأدلجة والدعاية، هذا الجوهر الحقيقي للفن سيفتح عن
طريق الصورة سبيلا إلى اكتمال العالم وكلية الانسان. الأدب والفن هما بذلك نشاط
سحري، وفقط لأنهما كذلك، يعبّدان الطريق إلى الكليّة الانسانية. ولكي يميزوا بين
فهمهم للأدب والفن والتيارات الأخرى، استعمل السورياليون المصطلح المتسامي
والممتد: "شعر": فإذا كانت أشكال الأدب والفن المستلبة لا تسائل تأويلات
الواقع السائدة، فإن الشعر بالنسبة للسورياليين هو دائما "فعل خروج"،
مساءلة مستمرّة وتجاوز لكلّ التأويلات السائدة التي تسجن الواقع في معنى ضيق.
الشعر فعل هدم، تجاوز للحدود المرسومة، إنه يفتح آفاقا جديدة للانسان ويوسّعها حتى
يتحقّق هذا الإنسان. ولأن طبيعته هي تمظهر للواحد–الكلّ، ولأنه يهدف إلى إعادة
صياغة هذا الواحد-الكلّ، فإن التناقض الثنائي القديم بين الفن والحياة يتلاشى:
الشعر يريد أن يصبح حياة والحياة تُريد أن تصبح شعرا.
إن القوّة الخاصة المسؤولة عن تكوين اللاوعي وإنتاج الصورة
الشعرية والتي تقذف بالإنسان خارج السجن الفردي للأنا، وفي نفس الآن التي تدفع به
لتحقيق ذاته، هذه القوة هي المخيلة. ولكن هذا يشير إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى ما
يكوّن جوهر الإنسان وما يحافظ علي "التماسك الداخلي للعالم": الرغبة،
الغرائز، الليبيدو، إلى هذا الدافع الأول الذي يشطب كلّ المسافات الفاصلة بين
الأنا والأنت، الأنا والعالم، العالم والأشياء، هذه النقطة التي لا مكان بها لخطّ
فاصل بين الجسد والروح، العقل والمادة. فمنذ بيان السوريالي لبروتون سنة 1924 نقرأ بأن الأمر يتعلّق بالإنسان وحده «إن كان يريد أن ينتمي كلّيّا لنفسه، فيعني ذلك أنّ عليه أن يحافظ كلّ يوم
على شهواته بوضعية فوضوية.» وكما قال سلفادور دالي: «أعتقد بأن الشهوات
المبهمة هي المصير الحقيقي، وهي التي تمثّل الثقافة العقلية الحقيقية التي لا
يمكنها أن تكون شيئا آخر سوى ثقافة الشهوة».
وسيؤكد السورياليون دائما على "السلطة المطلقة
للشهوة"، إذ أن ذلك سيظلّ كما قال بروتون سنة 1933 «منذ
البداية فعل الإيمان الوحيد للسوريالية»، وحتى في علاقة الحركة مع الرسم فإنّه يعلن سنة 1947 بأن «السوريالية لم تخالف البند الأول من بيانها الذي يقول بأن على الفن
التشكيلي أن يحافظ دائما على القدرة على تجديد نفسه باستمرار، حتى يسمح في تقلّبه
المستمر للرغبات البشرية بالتعبير عن نفسها.» وقد جاء في بيان براغ الذي وقعه السورياليون الفرنسيون والتشيكيون سنة
1968: «إن دور السوريالية
يتمثل في انتزاع اللغة وبشكل أعم العلامة من ربقة النظام القمعي وتحويلها إلى أداة
للرغبة». أو كما أبرزت ذلك
الرسامة السوريالية دوروتي طانينغ في مذكراتها: «البحث الفلسفي للسورياليين يدور في الأساس حول الايروتيكا، هذه القوة
المغناطيسية التي في ارتباطها بالثورة، تمثّل رفضا جارفا للحياة الانسانية القائمة»، وليس من المبالغة القول بأن النظرة السوريالية إلى العالم هي نظرة
ايروتيكية بامتياز. «الوجود
هو ايروتيكا» قال أوكتافيو باث وتابع ملخصا هذه النظرة إلى العالم: «إن صوت الرغبة هو صوت الوجود نفسه، ذلك أن الوجود ليس سوى رغبة بالوجود»، وفي مكان آخر كتب: «وككائن يتخيل لأنه يشتهي، فإن الإنسان قادر أن يحول العالم بأكمله إلى
صورة شهواته». ويمكن ملاحظة ذلك
بوضوح في شعر أو في الفن التشكيلي للحركة السوريالية سواء عند بروتون أو باث،
ولكن خوان ميرو يذهب إلى أبعد من ذلك حين يحوّل الكون بأكمله إلى موضوع جنسي.
إنّ المظهر اليومي للشهوة هو الرغبة الجنسية. رغبة تشطب كلّ
المسافات القائمة بين الأنا والأنت وتهدف إلى الذوبان الشهوي للواحد بالآخر: فهي
جوهر ورمز للتوحّد بعد طول فرقة. ولم يكن هذا ببساطة في أواخر العشرينات شيئا آخر
غير الحب، الحب بين الرجل والمرأة، هذا الحب الأعمق والأشمل، جسد وروح، غريزة
وإحساس، هذا التمظهر الموحد للشهوة الجنسية احتلّ دائما مركز الرؤية السوريالية،
اعتبره أراغون وبروتون وإيلوار وغيرهم من السورياليين تجربة كليّة، لحظة غير زمنية تتوحد بها كلّ
الأضداد، ويقترب فيها المرء من الشعر:
الشعر مثل الحب يمارس بالشرير
طلاؤه المبعثر، شفق الأشياء
قال بروتون في إحدى قصائده. أو كما قال سنة 1923 فإن السورياليين «عادوا بالشعر إلى شكله التعبيري الأكثر بساطة، إلى الحب...» وسنة 1936 يعلن بروتون بمناسبة المعرض الدولي للسوريالية (إيروس) «أن ما يوحّد بين أعمال السورياليين هو طابعها الايروتيكي». وحتّى أوكتافيو باث أشار كثيرا إلى هذه السياقات، فقد كتب سنة 1960: «إنه واقع معروف أن القصيدة لها جذور ايروتيكية، ولكن السوريالية اتخذت
موقفا متميزا حيال ذاك، فبالنسبة لها: الشعر والايروتيكا متماهيان، ذلك لأن لهما
نفس الجذور ونفس الهدف. إن القصيدة هي كون من الكلمات، تتوحد عبر الاستعارة فيه
كلّ أقطاب الحياة المتناقضة، أكثر من ذلك: بالشعر كما باللذة الجنسية تختفي
الأضداد لتخلّي الماكن لواقع جديد.»
ومن الواضح أن الايروتيكا والحب بالنسبة لأوكتافيو
باث، وكما هو الحال عند السورياليين عامة،
أدوات للمعرفة شأنهما في ذلك شأن الشعر. إن الرغبة «وسيلة لمعرفة الانسان وتغيير العالم» قال بروتون سنة 1932. وسنة 1947 مجد بروتون اللحظة «الجنسية التي في قمة
هيجانها لا تختلف عن الانجازات المتألقة للعقل». وفي بيان براغ سنة 1968 نقرأ: «البحث عن حقيقتنا الأكثر شمولا، التي تختفي بها طاقتنا الأكثر عمقا مع
قوانين العقل الأكثر سعة، هذه الحقيقة تخضع للقانون الذهبي للجنس. إنه يتعلّق
بالتهييج اللانهائي للرغبة عبر المعرفة وللتهييج اللانهائي للمعرفة عبر الرغبة، ما
إذا كانت الغلبة ستكون للحب، الحب الجسدي بين الرجل والمرأة، بكل ما يتضمنه من قوى
عقلية وحسية متفجرة».
ورغم هذا التمجيد الكبير للجنس، فإن السورياليين ظلوا يؤكدون على ارتباطهم
بالرومانسيين الذين كانوا أوّل من تمرّد على "وضاعة الفكر الغربي". فمنذ
الرومانسيين الألمان الأوائل يمكن للمرء أن يقف على بعض المسلمات السوريالية. إن
روح الحب، كما لاحظ فريدريش شليغل يجب أن يحافظ على حضوره بالقصيدة الرومانسية، بل إن شليغل ونوفاليس وغيرهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين رفعوا الحب إلى مستوى الديانة، وكذلك
الشأن مع الاشتراكي الرومانسي شارل فورييه الذي عاد إليه السورياليون غير ما مرّة: «إن الحب مساو للألوهية». وقرنا بعد نوفاليس وشليغل
يقول أراغون: «توقفوا عن تقديس شيء
آخر غير الحب. إن الوقت قد حان لاعتناق ديانة الحب»، في حين كتب بنيامين بيريت، رائد آخر من رواد الحركة السوريالية: «إن مفهوم القداسة يشتق مباشرة من الحب، فبدون الحب لا يمكن تصوّر شيء مقدّس»، وهكذا يستردّ السرياليون المقدّس، ليربطوه من جديد بالشعر والايروتيكا.
وهكذا تصل السوريالية في نقدها للحضارة القائمة إلى نتائج
راديكالية. فمن نحاية أخلاقية، تؤكد قناعتها بأن الأنسان كائن جنسي، وتطالب إذا
استعمل المرء المصطلح الفرويدي، بسيادة "مبدأ اللذة" على الواقع ومفهوم
الحياة، هذا المفهوم الذي يقوم على قمع الطاقة الجنسية باسم مبادئ مختلفة... وقد
أعلن بروتون سنة 1947 بأن «الحياة الانسانية عليها أن تمتلئ من جديد بالشهوة، عليها أن تصبح أكثر غنى
(...)» أما باث فإنه يقترح تعويض تعريف الانسان كحيوان عامل بالحيوان الجنسي. بل إنّه في
هذا السياق على المرء أن يتحدث عن أخلاق ايروتيكية سوريالية، عن أخلاق للحب يمكن
تلخيص مبدأها الأول في الجملة التالية: «التخلّي عن الحب، سواء استند هذا الفعل على سبب ايديولوجي أو أي سبب آخر،
هو واحد من الجرائم القليلة التي لا يمكن التكفير عنها، والتي يمكن أن يقترفها
انسان.» (بروتون). ويقول بول إيلوار: «أعتبر العفة شيئا لا
أخلاقيا ومدمّرا». وليس هنا فقط
يتجاوز النقد السوريالي المدرسة العقلانية الحديثة ليمس كلّ الثقافة المسيحية
الغربية. لقد كان السورياليون واعين لحقيقة أن العداء للذة في الثقافة الغربية نشأ
مع المسيحية نفسها، أو على الأقل معها حين تحولت إلى دين للدولة الرومانية بالقرن
الرابع الميلادي. اشمئزاز السورياليين من الديانة المسيحية، من حقدها على كل ما هو
حي وطبيعي، من تحقيرها للجسد والمرأة، وبصفة خاصة فهمهما للجنس كمعصية، لا
تسامحها، عنفها وضراوتها، البنية الكليانية لكنيستها الخ.. قد عبّر عن نفسه في
هجوم قوي على المسيحية، وكما جاء في بيان 1931 للسورياليين في باريس، وفي علاقة
الايروتيكا الدنيوية للسوريالية مع الزهد الأخروي للمسيحية لا يمكن تطبيق المنهجية
الجدلية للتوحيد بين المتناقضات، وإن كان السورياليون يرون أن هذا التماهي يمكن أن
يتحقق بشكل نسبي مع بعض الهراطقة المسيحيين وبعض المتصوفة. وقد حمل بروتون على "فكرة الخطيئة المسيحية"، فبالنسبة له، الانسان كائن بريء.
«لم تكن هناك أبدا فاكهة
محرمة». وأكد سلفادور
دالي من جهته بأنه «لا شهوة يمكن اعتبارها معصية» وتابع: «المعصية تتمثل فقط في
كبت الشهوة».
من جهة ثانية، فإن السوريالية يمكن أن تكون أي شيء آخر، ولكن
ليست أبدا مذهبا للذّة الخالصة. ومثل الشعر فإن الايروتيكا والحب هما ليبيدو متحوّل
وسام. بالنسبة لبنيامين بيريت فإنّ أعلى شكل للحب هو "الحب السامي"، ففي هذا الحب «تتحول الشهوة وتسمو، رغم أنها تظل مرتبطة بالجنس». وقد اهتم بروتون خاصة بمشكلة التسامي أو السمو بالغريزة الجنسية وقتا
طويلا من حياته. وتأثّر في رؤيته لذلك بما ضمنه جورج باتاي كتابه "الايروتيكا" الصادر سنة 1957، حيث يلعب مفهوما
"المنع" و"التجاوز" دورا مركزيّا. وشأنه في ذلك شأن من سبقوه
وأعقبوه، يميز باتاي
بين عالمين، عالم منتظم، متجانس، مدنس، "غير ممتد"، منفصلة فيه الأشياء
عن الجواهر، عالم العقل والعمل الخ.. ومن جهة أخرى، عالم فوضوي، غير متجانس، مقدّس،
"ممتد"، حيث الواحد متماه بالكل، وهو بالنسبة لباتاي عالم الفوضى والعنف والموت والذي ينتمي إليه أيضا الجنس. وفي حياته على
الأرض يحتاج الإنسان في أي مجتمع يعيش فيه إلى المحظورات وتابهوات معينة، ظهرت
بسبب من الخوف والاشمئزاز من العالم المقدس للفوضى الأصلية، والتي تهدف إلى حماية
الإنسان من هذا الالم والحيلولة دون أن يتم ابتلاعه من طرفه. ويظل الانسان، حسب باتاي، في عالمه المدنّس وغير الممتد، الذي تحكمه المحظورات، مجرّدا من كلّ
سلاح أمام العنف الأبدي، الدمار والموت، جوهرا وحيدا، معزولا ومستلبا، ولكنه في
العمق يحب تجاوز المحظورات التي تمنعه من ولوج العالم الممتد، المقدس، عالم الوحدة
والكلية. إنه مفروض عليه أن يتوقف عن الوجود كذات، أو فرد، أو أنا، حتى يتحقق كواحد
وبالتالي ككل، حتى يتماهى مع نفسه ومع الكل، فقط عندها يصبح حرّا، أو كما يسمى باتاي طريقة الحياة هذه: "مستقلا". بالنسبة له، فإن ذوبان الأنا،
الذي يتحقق بخاصة في مجال الجنسي، هو دائما فعل عنف، ويظلّ مرتبطا بطريقة لا تقبل
الذوبان مع التدمير والموت ومع الخوف منهما، الخوف من التدمير الواقعي لفرديته
نفسها. حرّ هو فعل تسليم الأنا، الممتلئ نشوة، كما يتحقق بالايروتيكا. فعل لحظي،
انعكاس للموت، ولا يمكن أن يتحقق في النهاية "كديمومة" بالنسبة لباتاي،
أو "كحياة حقيقية" عند رامبو، إلّا في الموت.
وقد وجد بروتون هذه النظرة إلى الايروتيكا شيئا ما "سوداوية"، ولهذا فإنه يتفق
مع ما قاله De Lubicz «إذا لم يكن ثمة بد من إنكار معنى الخجل والجمال في
الايروتيكا، فإنه لا يمكن إنكار معنى الحياة والمقدس، دون أن يترتب عن ذلك إنكارا
للايروتيكا نفسه» (ولكن الجنس والايروتيكا هما بالنسبة لباتاي: «إقبال على الحياة» ولكن: «حتى الموت») ويوافق بروتون على الوظيفة المزدوجة للمنع والتابو كما يراها باتاي:
فهي من ناحية حماية من العنف والفوضى وفناء المتغايرين، ومن ناحية ثانية إغراء لا
متناهي على التجاوز، ما يعني أن الايروتيكا بدون منع لا معنى لها. ويقول بروتون
سنة 1959: «هذا المنع، الذي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، امتلك
دائما صلاحية سواء عند من يطلق عليهم "البدائيين" أو عند من يطلق عليهم
"المتحضرين". وهو في الواقع الهدف الحقيقي للايروتيكا. إنه سيبرز دائما
برؤيتنا، كلما تمكن المرء من تحريره من الأدغال العنيفة للآراء المسبقة التي
تغطيه. والذي يتخيل أنه من الممكن في نفس الآن، ودون أن يلوي وجهه، تجاهل الحكم
المسبق والمنع، فإنه لن يكون قادرا على قول شيء بشأن الايروتيكا، لأن وعيه أخطأ
الطريق إلى مبدأها المؤسس الذي هو التجاوز.»
ولقد كان هذا الفهم للايروتيكا حاضرا
في الكتابات السوريالية حتى قبل باتاي، وهذا روبرت
ديسنوس
يقول: «لا يمكنني أن أتصوّر حبّا، دون أن يكون مرتبطا بالموت
وبالعاطفة والحزن». وعن السؤال: ما الايروتيكا؟ أجاب السورياليون في إحدى
ألعابهم المعروفة: "سؤال-جواب" كالآتي: «إنها احتفال فخم في أقبية تحت أرضية». ورواية آندري
بيير دو مانديا
رجس البورنوغرافية: L’Anglaix décrit dans le château fermé تنتهي بالجملة التالية: «ايروس هو إله أسود». ويوضح مقال بنيامين بيريت Le Rouilles encagés الطاقة الجبارة على العنف، التي
يحدّ منها الليبيدو. هذا المقال الذي يوضّح بعيدا عن الدعارة، أي طاقة يقذف بها
الانسان لحظة الجنس وكم هي فوضوية ومدمّرة هذه الطاقة، حين يعمد الانسان إلى سجنها
بقفص. والموضوع الأساسي لهذا الجنون الجنسي الجارف هو بطبيعة الحال المسيحية.
وقد كان السورياليون واعين لحقيقة أن المجتمعات
على اختلاف أشكالها تنظر إلى الجنس والايروتيكا والحب كقوى هدامة. وكما لاحظ أراغون: «الحب: شيء في العمق لا قانون له، رغبة لا تحدّ في
اقتراف الآثام، في رفض الممنوع، وفي الهدم». إن الحب هو «مبدأ الشرّ في الديمينولوجيا (علم الشيطان) البورجوازية» كما جاء في إحدى المقالات السوريالية حول فيلم
"العصر الذهبي" للويس
بونويل.
ولاحظ أوكتافيو باث أنه «اليوم، وفي الوقت الذي بذل العلم ومعه كل قوى المجتمع
النشيطة جهدا كبيرا من أجل توحيد الحياة –ولكن بطريقة سطحية-، فإن الايروتيكا تظلّ
دائما سرّا مبهما، طريقة مقدسة للحياة، تبغي مواجهة هذا النظام باستقلالية وقدرة
على الخلق». وليس باعثا على الدهشة، أن السوريالية التي تحتفي
بالحياة على الأرض اجتهدت دائما من أجل «إعلاء شأن هذه القيم المستقلّة والخلاقة ضدّا على وضاعة
مجتمعنا المعاصر».
ومع "تقديس" الحب
والايروتيكا وفي نفس الآن محاربة الوهم الذي أشاعته "مشاريع الخداع
المقدسة"، بدأت المرأة تحتلّ قيمة كبيرة في الحركة السوريالية، إذ سيتم
الاحتفاء بها كحافظة للطبيعة التي مزقتها وهمشتها الثقافة، كقائدة في المجالات
الممنوعة والمنسية للقوى الكامنة بالانسان، وكتوق إلى التحقق الكامل. وهكذا قالت دوروتا تانينغ في مذكرات حياتها: «بملايين الكلمات وصف السورياليون المرأة (...) وأظن أنه
حتى في مرحلة الأدب الرومانسي، لم يقدس الكتّاب الرجال المرأة كما فعل
السورياليون.» فعند السورياليون كما أعلن بروتون
سنة 1953 «تمّ الاحتفاء بالمرأة مثل الأمل الكبير، أمل سوف يستمر
في الوجود حين تكتسب المرأة حريتها» هذا التقديس كان من جهة ردّة فعل على قرن من قمع
المرأة من طرف الايديولوجيا المسيحية الأبوية وعلى حصر المجتمع البورجوازي لدورها
الاجتماعي بانجاب الأطفال والعمل المنزلي، ومن جهة أخرى لأن الحركة السوريالية
كانت في بدايتها محصورة بالرجال ولم يتحقق وجود المرأة سوى في هامش الحركة، كزوجة
أو عشيقة الخ.. ولقد منح السوريالي للمرأة فرصا كثيرة ولكنها لم تستطع في البدء أن
تغتنمها. وطبعا لم يكن الابداع الفني شرطا أساسيا لكي يصبح المرء سورياليا،
فالأساسي كان هو النظرة إلى الحياة. وقد أشار José Pierre إلى «التسامح الكبير والحرية غير المعهودة التي تمتعت بها
المرأة داخل الحركة السوريالية. بل إنني أقول بأن المرأة كانت لها حرية مطلقة» وفي البداية لم يتوجه نقد السورياليين إلى البناء
الأبوي للثقافة الغربية، وكأبناء لهذه الحقبة الأبوية أعاد السورياليون في المرحلة
الأولى انتاج نفس الممارسات الذكورية. ويظهر هذا الدور المهمش للمرأة بوضوح في
قائمات الأشخاص الذين شاركوا في الاجتماعات السوريالية بباريس بين سنة 1928 و1932
والتي ناقشت موضوع الجنس، والتي كان الحضور الأنثوي بها جدّ ضعيف.
ولكن بعد ذلك ستضطلع المرأة بدور
كبير داخل الحركة السوريالية سواء التشيكية منها أم الفرنسية أم الانجليزية،
كفنانة وشاعرة ومنظرة. ومنذ أواسط الثلاثينات لم يعد ممكنا اعتبار السوريالية حركة
ذكورية. وبسبب وحشية الحرب، التي تعتبر امتداد للجرائم التي ارتكبتها الحضارة
الغربية الذكورية، دخل بروتون في صراع مع النظام الأبوي للثقافة الغربية. ولقد كتب
سنة 1944 بأن التدمير النهائي لهذا المعيار الحضاري الذي نسميه أوروبا، ورأى بأن
الأزمة هي من الحدّة، بحيث أنه لا يرى حلّا لها سوى: «أت تعطي الأسبقية لرؤية المرأة إلى الحياة، بدلا من
رؤية الرجل إلى الحياة التي تعيش اليوم إفلاسها».
وخصوصا، فقد أصبح واجب الفنان إعطاء
الأولوية لكلّ ما له علاقة بنظرة المرأة إلى الحياة. لقد كان الهدف في ذلك الوقت «الدفاع في الفن عن المرأة ضدّ الرجل، نزع كلّ السلطات
من يد الرجل، لأنه أساء استغلالها وإعادة هذه السلطات إلى المرأة، ورفض كلّ
متطلبات الرجل، مادامت المرأة لم تنجح بعد في أن تستعيد دورها، ليس فقط في الفن
ولكن في الحياة نفسها». وفي كتاب: 17 Arcanes تحدث بروتون عن
«العلاج الارضي عن طريق المرأة»، عن دورها الرائع «الذي تمّ تغييبه وعرقلته وتظليله». إن هذا يبدو كما لو أنه دعوة لإعادة إخضاع العالم
لنظام أموي. وفي الواقع، فإن بروتون لا يدعو هنا إلى تغيير للسلطة، ولكن إلى توليف بين
الذكوري والانثوي: إلى كليّة.
وقد ظلّت "نظرة المرأة إلى
العالم" شيئا ما معتمة بالكتاب السابق الذكر، على الرغم من أنه ليست المرّة الأولى
وضدا على نظام أبوي جامد حسيا ومتصلب روحيا، يتم الاحتفاء بصورة
"المرأة-الطفل" هذا المخلوق الذي يحتفظ بالطراوة والبراءة وتدفق الحياة
والتلقائية، و"بالقوة اللاعبة للطفولة".
الشهوة في معناها الواسع هي رغبة
الانسان في تجاوز أسوار ذاته والذوبان في شيء خارجه. أن يتجاوز ذاته ويتحوّل. وفي
هذا المعنى، فكل عمل سوريالي، كلّ إنتاج أصيل للمخيلة الشعرية، هو عمل إيروتيكي.
وفي معنى أضيق، فإن الشهوة هي الرغبة الملحّة للفرد في التوحّد بفرد آخر، في التحوّل
إلى واحد.
ولم يخفت قط اهتمام السورياليين
بحركة الحب، الايروتيكا والجنس. وتؤكد ذلك المعارض الفنية التي أقاموها، سواء
بباريس بين سنتي 1959 و1960 والتي حملت اسم "ايروس" وسنة 1965 كان الاسم
المقترح للمعرض هو: "المرأة من وجهة نظر سوريالية" أو "اعتلاء
المرأة للعرش" والعرض الذي أقامة ببراغ السورياليون التشيك سنة 1968 والذي
حمل اسم: "مبدأ اللذّة"، ثم المعرض الكبير الذي نظمه السورياليون
الأميركيون بشيكاغو سنة 1976 والذي حمل اسم: "السلام الرائع- يقظة
الرغبة". ويمكن الاستدلال أيضا على هذا الاهتمام من خلال الكثير من
الاستفتاءات العامة التي نظمها السورياليون التحقّق من رأيهم في هذا المجال (الايروتيكا)
وبعلاقته مع المجتمع ككل. وهكذا أجروا استفتاء حول الحب بباريس سنة 1929 وآخر حول
الشهوة أجراه السورياليون اليوغسلاف سنة 1932 الخ... وقد اكتسبت هذه الاستفتاءات
شهرة كبيرة، خاصة تلك التي نظمها عدد من أعضاء الحركة السوريالية بباريس في لقاءات
متعددة بين يناير 1928 وأغسطس 1932، والتي رغم كلّ النقد الذي بإمكان المرء أن
يوجهه اليوم لها، تظلّ بالنسبة لزمنها الذي كان أشدّ ما يكون بعدا عن "الحرية
الجنسية"، مشروعا شجاعا ومتنورا. وتظهر تقارير هذه الجلسات التي لم تنشر
كاملة إلا سنة 1990، بأن السوريالية وخاصة فيما يخص العلاقات الجنسية كانت سابقة
لعصرها.
هذا الفارق بين روح العصر
والسوريالية تظهره بحق تجربة الرسام السوريالي ويلهلم فريدي بمجتمعنا الذي مازال رهين المبادئ المسيحية. فلوحته "قتلى الحرب
العالمية" (1936) والتي بعث بها للمعرض السوريالي العالمي بلندن سنة 1936،
تمت مصادرتها من طرف رجال الجمارك الانجليز، بدعوى أنها مخلّة بالآداب العامة،
بورنوغرافية. وقد أفلتت بصعوبة من الحرق كما كان ينص على ذلك قانون تلك الأيام.
وفي العام التالي تمت مصادرة أعمال أخرى لهذا الرسام من طرف الشرطة الدانماركية
وتمّ تقديمه للمحكامة. وقد اضطرّ فريدي إلى قضاء فترة بالسجن، كما فقد ثلاثة من أهم أعماله،
ولما تقدّم بطلب استعادة تلك الأعمال سنة 1961، ووجه طلبه ذاك بالرفض. فأعاد رسم
تلك الأعمال الثلاثة المصادرة وعرضها بكوبنهاجن، ودقائق بعد انطلاق المعرض، وصل
رجال الشرطة وأغلقوا المعرض وحجزوا اللوحات، فقط سنة 1963 سوف يستعيد فريدي
لوحاته وتتم تبرئته قضائيّا.
وقد اتسم رد فعل الصحافة البورجوازية
على المعرض السوريالي "ايروس" في باريس بالعدائية، وتم اعتباره كدار
للدعارة، كما تمت الدعوة لتحذير الشبان منه.
ومن الطبيعي أن يلجأ كتاب مثل اراغون وبيريت في
العشرينات من القرن إلى نشر كتبهم تحت أسماء مستعارة، وهذا ما وقع أيضا لصاحب
كتاب: L’Anglaix
décrit dans le château fermé وقد أصاب Gérard Legrand حين أعلن بأنه فقط مع السوريالية
سوف يتخلّص مفهوم الايروتيكا من معناه المنحط الذي رافقه منذ ظهوره بالقرن التاسع
عشر.
ونفس الكاتب يشير إلى أنه وحتى سنة
1952 ظلت قواميس التحليل النفسي تعرّف الايروتيكا على أنها "افراط في الغريزة
الجنسية".
طبعا، كما قال بروتون،
فإن تعدّد الوسائل التي وهبت للسوريالية تنوعا أسلوبيا كبيرا، حتى أنه لم يعد من
السهل الحديث عن تيار أسلوبي محدّد، هذه الوسائل يجدها المرء أيضا في نصوص وصور
أولئك الذين انتقدوا السوريالية. ولأن السوريالية وقفت ضدّ كلّ شكل من أشكال
الرقابة والمنع، لم يكن خيال شعرائها ورساميها مرتبطا بمبدأ محدّد، وكبيرة كانت
المساحة المخصّصة للتصورات والتعبيرات الايروتيكية. عديدة هي المؤلفات التي احتفت
بالحب "الخالص" وعديدة أيضا هي تلك المؤلفات التي احتفت بالجنس الحيواني
وبكلّ الانحرافات الجنسية: النصوص والصور تلك قد لعب طبعها "الخليع"
بعكس الصور البورنوغرافية التجارية لهذه الأيام، دورا هدّاما، ضدّا على سوداوية
ونفاق المسيحية.
وأركان هذا الطيف الايروتيكي
السوريالي يمكن أن نجدها عند أندريه
بروتون
وتصوره عن الحب "الحب المنصّب" أو عند بنيامين بيريت و"حبه المتعالي"، ومن جهة أخرى في كتابات الماركيز دو ساد التي تطبعها شهوة غامرة لا يسبر لها غور. وبالنسبة لبروتون
الذي تأثرت فلسفته عن الحب بحب السراي القروسطي وبالتقليد الباطني والخنثوي، ولكن
أيضا بمذهب الحب الرومانسي الذي كان يسعى إلى الحلول بالمحبوب، فإن الحب يظلّ عنده
تجربة الكلية و"الحياة الحقيقية" التي تتحقق بتلك اللحظة «التي يصل فيها فعل الحب إلى ذروته، والذي لا يمكن أن
يختلف في شيء عن كل المطامح النبيلة للعقل. فلا شيء يظلّ تحت الذروة». لقد كان بروتون صفائيا في حبّه وليس متزمّتا. وتصوّره كان شيئا ما
واحديا. فالحب في معناه السامي لا يمكن أن يكون إلا باتجاه شخص واحد من الجنس
الآخر وشرطه هو المعاملة بالمثل. "الحب المنصّب" يعني بالنسبة له أن «الاختيار يتحقّق خارجنا، إنه أشبه بقدر مشترك (...)». هذا النوع من الحب هو بالنسبة لبروتون «المبدأ المؤسس للتقدم الأخلاقي والثقافي»: إنه نوع من الخلاص.
اللعنة الكبرى قد رفعت. إنه الحب
الإنساني الذي تكمن به كلّ قوّة لتجديد العالم. وليس فقط بروتون وبيريت من
فهما الحب بهذا الشكل، فهذا أراغون يقول: «أن يحب المرء امرأة، يعني أن ينظر إليها على أنها
المعنى الوحيد لحياته، والذي تتراجع أمامه كلّ المعاني الأخرى».
وبالجهة الأخرى للطيف الايروتيكي
للسوريالية يلتقي المرء بالماركيز
دو ساد.
وحوالي سنة 1930 بدأ اهتمام بروتون وأصدقاؤه بهذا "الماركيز الالهي"، واستمر
دون انقطاع اهتمام العديد من السورياليين بساد،
إذ حولوا بعض أعماله إلى لوحات فنية، أو اقتبسوها أو علقوا عليها. لقد كان بالنسبة
لهم المحرر الكبير للشهوة، والذي ألقى الضوء على هذه الطاقة الأصيلة للانسان، دون
أن يولي اعتبارا للتصورات الموروثة عن الخير والشر، محرّرا الشهوة من غياهب السجن
الذي اعتقلتها به المسيحية. لقد أوضح بأنه لا وجود للشرّ، لا وجود إلّا للبراءة.
لقد كان أحد كبار الكتاب الذين مهّدوا الطريق لإقامة أخلاق للحب، تقوم على التحرير
الكامل للشهوة، وتهدف إلى التحقيق الكامل للإنسان. قال سلفادور دالي، أحد أتباع ساد في "المرأة المستترة" سنة 1930: «أن كل ما يعتبر في الحب انحرافات وفسق له قيمة كبيرة
بالنسبة لي. إنني أنظر إلى الانحرافات والفسق كأشكال تثويرية للفكر والعمل، تماما
كما أرى في الحب النظرة إلى الحياة الوحيدة للإنسان». وبعد سنتين قال: «وحده ساد من يبدو لي المعلم الكامل لشهوة الشباب الثائرة». وقد احتفى ايلوار هو الآخر بساد «لأنه أعاد إلى الانسان المتحضر قوة غرائزه البدائية،
لأنه أراد تحرير خيال الحب...» وقد اهتم الرسّامون السورياليون خاصة بساد،
وعمدوا إلى رسم أعماله، أو استوحوها، مثل بينويل في
فيلمه "العصر الذهبي".
وبين قصيدة الحب العفيفة والقصيدة
النيئة، اللحمية نجد العديد من القصائد التي تخلط بين الاثنين: الحب والشهوة. الحب
والشهوة هما بالنسبة للسورياليين الجدليين صورة لشيء واحد. إنه أيضا رأي بروتون
الذي قال: «الحب، الحب الوحيد الذي يوجد، هو الحب الحسي» إنه يكتب في "الحب المجنون": «إنني أؤله ظلالك السامة، ظلالك القاتلة، ولم أتوقف قط
عن تأليهها. وسيأتي يوم ويعتبرك الانسان فيه سيدته الوحيدة...». وفي مكان آخر: «الضوء الرائع والباهر لشعلة الحب المجنون، لا يجب أن
تخفي عنا مما تتكون منه هذه الشعلة، أن تمنعنا من النظر إلى عمق الجوهر الذي عليها
أن تتغذى عليه إذا أرادت أن لا تنطفئ.»
وانطلاقا من هذه الرؤية، فقد عمدت
السوريالية إلى «القيام بكلّ شيء من أجل تحطيم التابوهات التي تمنع
الانسان من التعبير عن غرائزه الجنسية، بما في ذلك انحرافاته الجنسية.» ومن يستطيع أن يعترض على فكرة أن السوريالية قد لعبت
دورا رياديا في "التحرر الجنسي" منذ الحرب العالمية الأولى.
ويعتبر السورياليون ثنائيات من قبيل
الشهوة والحب أو الحيوانية والروحية مجالات منفصلة اصطناعيا. كما يهتمون بالحياة
الجنسية للفرد. وبالنسبة لهذه الممارسة الحياتية، فقد حاول بروتون في
أواسط الثلاثينات التنظير لنوع من أخلاق الايروتيكا والحب. ولأن الحبّ بالنسبة له
يتحقق فقط لدى شخصين من جنسين مختلفين، فإنه رفض ليس فقط الشذوذ الجنسي ولكن كلّ
ما لا يتفق مع فكرته عن الحب. لقد فهم الشهوة الجنسية، الدونجوانية، الإباحية،
كممارسات أنانية لا تتفق مع أخلاق الحب عنده، كما رفض كلّ شكل من أشكال
الأفلاطونية والزهد. إنه يكتب في مقدمته لمعرض "ايروس" سنة 1959: «إن التصوّر السوريالي عن الايروتيكا يختلف عن وسائل
التسلية السهلة، التي دنست اللغز الانساني». ولكن دعاة التسلية السهلة قد وجدوا أيضا بداخل الحركة
السوريالية، ولهذا يجب على المرء أن يحترس من أن يربط أخلاقيات بروتون مع السلوك
الواقعي لبعض أصدقائه. بل منذ سنة 1929 اختلفت الأجوبة على سؤال: "ما
الحب؟" بين بروتون وبعض السورياليين. وفي سنوات الثلاثينات دخلت
السوريالية مع كلمات جوزييه بييريه مرحلة "ايروتيكية السلوك". وهذا الصعود
اللحمي للايروتيكية لا يرجع إلى مفهوم "الحب المنصّب" لبروتون،
ولكن في الغالب للاباحية والدونجوانية، حتى أنه بإمكان المرء أن يقول بأن "بروتون في
"الحب المجنون" كان يتوجه بالكلام إلى السورياليين أنفسهم."
ومن بين الدونجونيين –وحتى نتحدث فقط
عن البارسيين منهم- شار وديشو وايلوار وإرنست ومان
ماي. آخرون مثل اراغون ولايريس
وأيضا ايلوار تعودوا على زيارة دور الدعارة. في حين يعلن بروتون
سنة 1932: «لم يسبق لي قط أن نمت مع عاهرة، وذلك أولا لأنه لم يسبق
لي أن أحببت عاهرة ولا أظنّ بأني قادر على ذلك، وثانيا لأني أستطيع أن أعيش عفيفا
إذا لم أكن أحب امرأة.» وفي هذا الوقت الذي ازدهرت فيه دور الدعارة، يعلن بروتون: «إنني أحلم بإغلاق كلّ دور الدعارة، لأنها أماكن يتمّ
فيها دفع ثمن كلّ شيء، إنها أشبه بملاجئ وسجون». ويقول في "الحب المجنون" منتقدا الاباحية: «أن يحتاج المرء لتغيير موضوع الجنس، بموضوع آخر، يعني
أنه مستعد لأن يخطئ بحق البراءة، بل إنه قد أخطأ فعلا بحقها، بحق البراءة في
معناها المطلق.» إنه يقول: «عبر لوحة أو قصيدة أو فعل الحب نفسه، يمكن للمرء أن يحط
من قدره، إذا ما كان الذي يسلمه جسده، ليس في وضعية الغيبوبة»، إذا لم يتجاوز حدود وعيه، وشخصيته، إذا ما لم يقفز
فوق أناه: الحب كإضاءة، كنشوة محررة، كتجربة سحرية للاكتمال، للكلية، للقداسة.
إن قوله هذا، رفض لكلّ ما أنتجه
مجتمع الاستهلاك من "حرية جنسية". ففعل الحب كفعل غيبوبة (غياب عن
العالم وفناء بالمحبوب) كما يفهمه بروتون، يبدو الناس اليوم أشدّ بعدا عنه. إن
النشوة تتحقق اليوم فقط في الأشكال الاستهلاكية المنحرفة للذة، والليبيدو يحكمه
اليوم مستغلون تجاريون. ويكتب بيريت سنة 1956: «لقد تمّ تحطيم حصن الآراء الجنسية المسبقة. إن ذلك يخفي
أولا مستنقعا قد يبدو للعين مسالما ولكنه يهدّد البشر بالغرق. ونتيجة كلّ ذلك،
حرية جنسية لا محدودة، ضدّا على الحب السامي، وهي لا يمكنها أن تصنع من الانسان في
النهاية سوى كائن صغير.» ونفس الرأي يقتسمه باتاي،
وكذلك الشأن مع بروتون، الذي وقبل وفاته بقليل، أفصح غير ما مرّة عن رأيه
بالتربية الجنسية. لقد كتب سنة 1964: «إن المرء ليخطئ، إذا ما دعا إلى تجاوز كلّ التابوهات
والمحظورات الجنسية. إن التربية الجنسية المنظمة لا يمكن أن تكون صالحة إلّا إذا
احترمت طاقة "التسامي"، وإذا وجدت الوسيلة والطريقة لتجاوز إغراء
"الفاكهة المحرمة". إن الأمر يتعلّق بالتلقين فيما يخص التربية الجنسية،
تلقين كلّ ما تتضمنه كلمة التربية الجنسية من قداسة –طبعا ليس في المفهوم الديني-
وما يقتضيه البحث عن التكوين المثالي للزوجين. إن هذا هو ثمن الحب»، أمّا ما يُنفخ فيه اليوم على أنّه تحرر جنسي، فهو كما
قال بروتون سنة 1964 تدنيس كبير، تدنيس للمكان "الذي تولد به
الأحلام". إنه يدعو بعكس ذلك «إلى الاعتماد على المبدأ الباطني الذي يدعو إلى إخفاء
بطريقة ما لما تمّ كشفه، وعلى المرء أن يحترس من تجويف ما ينبت في أعماق قلب
الانسان». إن من شأن ذلك التجويف أن يحوّل المرء إلى كائن صغير
كما أعلن بروتون، وكلّما كان الانسان صغيرا كلّما كبرت لاانسانيته: إن
السياق واضح، وهو يقدّم لنا يوميا عبر الأخبار من كلّ مكان في العالم، فلا الحقد
المؤسساتي ضدّا على الجسد والحياة يوافق طبيعة الانسان، ولا أشكال الاستلاب
الجنسية الجديدة لثقافة الهزل، التي يبتعد فيها توحد الأجناس عن "اللغز
الكبير للانسان".
المصدر: مجلة الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، رام الله فلسطين، العدد
76/77، صيف خرف 2003، ص263-274
مقال جدا جميل😍
ردحذفشكرا لكم 🌹🌹