السبت، 23 نوفمبر 2013

جورج باتاي والانقلاب المادي: بيار ماشيري

ترجمة: جوزيف شريم

«...»
إنّ نصوص باتاي التي سندرسها لا تنتمي إلى فئة السرد الخيالي، ولكنها تنتسب إلى فئة المحاولات الفكرية المجاورة للتفكير الفلسفي، والمحافظة في الآن ذاته على بُعدها الشعري: إذ تعالج هذه النصوص مسألة أساسيّة، هي مسألة المادية، فإنها ترفض التجريد والعمومية وتبقى مرتبطة برهانات أدبية صرفة، حتى ولو كانت في جزء منها منبعثة من سياق سردي. كتابة باتاي، أكثر من أي كتابة أخرى مطبوعة بهذه الحركة المستمرّة، بهذا التبادل بين التخيل والتفكير، في عملية "قلب" المادية، حاول باتاي أن يقدم نقدا شعريا لها، بواسطة مفاهيم تعمل في آن واحد كصور وكمفاهيم، من نوع تلك التي رأيناها تعمل في سياقات شديدة الاختلاف ظاهريّا.
لا شكّ أنّ باتاي لم يضف شيئا على التاريخ العقائدي للمادية، أو أنه لم يُضف شيئا يُذكر: حتى إنّه لا يمكن أن يُعتبر "ماديا" باعتبار أنه لم يُعد نظرية "مادية" للمذهب المادي، وهو مع هذا لم يدّع ذلك قطّ، فهو إذا استخدم في بعض آثاره الأولى المرجع المادي لكي يميّز نفسه، فقد فعل ذلك بمعنى التطلب، واتخاذ موقف له دلالة السؤال، ما يشبه إعادة بحث الموضوع: إذا كانت هذه المسيرة الفكرية لا تزال تساعد على تحديد موقف مادي، فبقدر ما تبرز ما يطرحه الموقف المادي من مشكلة. مداخلات باتاي النظرية التي سنحيل إليها هنا، تقع في حدود 1929-1930 زمنَ إحيائه مجلة وثائق(1) (Documents): بتفضيلنا هذه الفترة المحددة التي تتوافق مع نشره آثاره الأولى، سيكون ربّما من الممكن إدراك هذا الموقف المادي في مرحلة ولادته، عندما ارتسمت معالمه بأقصى حدة، بل بإسراف في الحدّة، معلنا في الآن ذاته المظاهر المتناقضة للظروف الفكرية والثقافيّة التي تحدد موقفه في داخلها، وقد تمثلت هذه المظاهر بنوع خاص في النقاش الذي دار وقتنئذٍ بين باتاي وبروتون (Breton).

باتاي الشاب
كان عمر باتاب سنة 1929 اثنتين وثلاثين سنة. كان قد نال سنة 1922 شهادة "مدرسة شارت"(*) (L’Ecole des Chartes) بتحقيقه ونشره قصة شعريّة من القرن الثاني عشر نظام الفروسية (L’ordre de la chevalerie). بعد ذلك، بدأ يعمل في المكتبة الوطنية حيث دخل إلى قسم الميداليات قبل أن ينتقل إلى قسم المطبوعات، في هذه الفترة كان قد نشر القليل: نشر سنة 1917 نصّا قصيرا ذا استيحاء، كاثوليكي محدث (Néo-catholique)، خصّص  لنوتردام دو ريمس (Notre-Dame de Reims)، وقد كتبه بعد إقامته ما يقرب من سنة في أحد الأديرة(2)، وفي سنة 1926 نشر مختارات من القصائد الهجائية في القرون الوسطى (Fatrasies) في الثورة السوريالية(3) من دون ذكر اسمه، وكان إسهامه الوحيد في الحركة السوريالية. هذا بالإضافة إلى بعض المقالات التي ظهرت سنة 1928 في مجلة أريتوز (Aréthuse) حول العملات القديمة، وتقرير مهم في موضوع معرض مخصّص للفن المكسيكي نُشر بعنوان أمريكا المفقودة (L’Amérique perdue)، في دفاتر جمهورية الآداب والعلوم والفنون (Cahiers de la république des lettres, des sciences et des arts حيث عُرضت بإيجاز موضوعات الإنفاق والتضحية، وأخيرا، وهذا هو الأهم، وخلال سنة 1928 تحت اسم مستعار هو اللورد أوخ (Lord Auchتاريخ العين (Histoire de l’œil)، وهو أول نص فاضح لباتاي، الذي لن يكف بعد ذلك عن العودة إلى المواضيع العامة للإيروسية(4).
لنذكر بعض المعلومات الدقيقة عن تكوين ثقافته الفلسفية:
كان باتاي قد حضّر وحده شهادة الباكالوريا التي تقدم لنيلها كمرشّح حر، خلال الحرب العالمية الأولى، وكان قد انتقل إلى أوفرن (Auvergne) مع بعض أفراد أسرته. وفي لندن، سنة 1920، حيث كان يعمل في "المتحف البريطاني" في إطار دروسه في "مدرسة شارت" لا شك أنه استمع إلى محاضرة لبرغسون (Bergson) صدر في ما بعد نصّها المعدَّل ضمن كتاب الفكر المتحرك(5) (La Pensée et le mouvant). نعرف جدول الكتب المستعارة من "المكتبة الوطنية" التي تشهد باهتماماته المتقلبة: من بين الأسماء المذكورة نجد أسماء نيتشه الذي عرفه منذ سنة 1922(6)، وهيغل الذي درسه سنة 1925 في ترجمات فيرا (Vera) القديمة، وقد اعتمدها بروتون في الفترة ذاتها، وكذلك فرويد (Freud) في الفترة التي خضع فيها باتاي ذاته للتحليل من قبل الدكتور أدريان بوريل (Adrien Borel) الذي كان يهتم أيضا بليريس (Leiris) وكينو حوالي سنة 1926(7). ومنذ العام 1925، كان باتاي قد أقام علاقات متواصلة بالفيلسوف الروسي ليون شستوف (Léon Chestov) الذي هاجر إلى فرنسا(8): لا بد أن هذا الفيلسوف قد أيقظ اهتمامه بأفكار باسكال (Pascal) وكيركيغارد (Kierkegaard) ودوستويفسكي (Dostoïevski) "المأساوية".
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن باتاي قد اطّلع باكرا على أبحاث موس (Mauss) بواسطة ميترو(9) (A.Métraux) الذي كان زميله في "مدرسة شارت". ومن بين هذه الأبحاث محاولة في الهبة (Essai sur le don)، التي ظهرت سنة 1925 في (L’Année Sociologique)، وتتضمن خاتمتها إمكانية التقريب بين علم الاجتماع والتحليل النفسي في علاقتهما بدرس ظواهر اجتماعية وعاطفية للتناقض الوجداني. وبشهادة ميترو نعرف أن باتاي كان متأثرا بنوع خاص بعبارة تلفّظ بها موس في أحد دورسه: "لقد وُضعت الممنوعات لكي تُنتهَك".
كلّ هذه التجارب الفكرية تلقي الضوء على النصوص التي كتبها ونشرها باتاي بين 1929-1930: يجب ألّا ننسى أن هذه النصوص قد سبقت مشاركته قي "Critique sociale" لسوفارين (Souvarine)، التي سوف تكون المناسبة للالتقاء بسيمون فاي (simone weil) وقبل أن يدخل كذلك في علاقة بفيلسوفين روسيين آخرين مهاجرين إلى فرنسا، هما كوريه (Koyré) وكوجيف، وهما اللذان سيمنحان ثقافته الفلسفيّة تطورا جديدا.
ما من واحد بين المراجع التي عددناها يذكر المادية ولا حتى يقترب منها ظاهريا. مع ذلك، في سلسلة المقالات التي نشرها باتاي في مجلة وثائق (Documents)، وبعضها له طابع نصوص فلسفيّة حقيقيّة، كانت المادية دائما الموضوع المطروح بحيث إنها كانت توجّه تفكيره النظري توجيها ديناميكيّا. لماذا المادية؟ وأي مادية هي المقصودة؟
شارك باتاي في كلّ عدد من أعداد وثائق التي كانت في أول عهدها نوعا من مجلّة فنية: كان يعالج فيها المواضيع الأكثر تباينا والأبعد تلاؤما ظاهريا والتي كانت تجمع بينها فقط محاولة رسم مخطط لميثولوجيا الحياة اليومية(10). قد نرانا مدفوعين إلى إقامة مقارنة بين هذه المسيرة الفكرية والبحث عن الخارق والغريب الذي قام به في الوقت ذاته وبطريقة منهجية سورياليون، وكأن باتاي تقاطع معهم في منظار التحويل الشعري للواقع. ولكن هذه النقطة هي التي عارض فيها بروتون منذ البداية: ذلك أن بحثه غير المترابط قصدا، وذا المنحى المزدوج الدلالة –هذا هو جوهر القضية في الموقف الذي تبناه باتاي- كان يهدف لنشر الاطمئنان أو إحداث الإغواء، بل لخلْق الحيرة والقلق، وفي سبيل ذلك كان يلجأ إلى الوسيلة الفضلى، السخرية، وهي على طرف نقيض من روح الرصانة والجلال اللتين يبشّر بهما بروتون، فالنصوص المنشورة سنة 1929 في الأعداد السبعة للسلسلة الأولى من وثائق، كانت تمثّل أفضل تمثيل هذا الاتجاه وهذا القصد في إحداث الصدمة الذين كان يحييان هذه السلسلة من المقالات.

السلسلة الأولى من مجلة "وثائق": اللجوء إلى الفضيحة
في العدد الأول من مجلة وثائق (Documents) الذي صدر في شهر نيسان/ أبريل سنة 1928، هناك دراسة موقّعة باسم باتاي موضوعها الحصان الأكاديمي (Le Cheval académique). هذه الدراسة التي تنطلق من تأملات في الرسم الحيواني على العملات الغالية (Monnaies gauloises) أفضت إلى تفكير عام يتناول مجالات فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ. كانت فكرة النص المركزية أن التطوّر الطبيعي كالحضارة الإنسانية، ينموان بين نظامي مرجعية متضادَين: نظام كلاسيكي، من جهة، يعتمد على الانضباط والاعتدال، ومن جهة أخرى، عنف وحشي يتصف بالمغالاة. اعتبر باتاي على الفور نزعة الفكر العفوي إلى وصف هذه المغالاة وصفا سلبيّا بتعابير العيب والنقص(11) أنها نزعة "مثالية"، وقد واجهها بضرورة التفكير بقوى عدم الانضباط باعتبارها "إسرافا إيجابيّا"(12)، أي بتعابير تنفي أي مرجع إلى السلبية. انطلاقا من ذلك، كانت ترتسم صورتا تفكير ستلتقيان، في ما بعد، في جميع تأملات باتاي اللاحقة. أولا فكرة القطبية (وجود قطبَين) التي تتحكم بالانتشار التناوبي لحركة ثنائية ومنقسمة، ولكي يتجنب باتاي الاهتمام بإيجاد حلّ لهما، لم يتكلم عن تناقضات، بل عن تعارضات: وهذه التعارضات، من منظار التكرار وليس الانتشار، عليها أن تمزّق الواقع بشكل دائم، وفي ذلك إذًا رجوع إلى مفهوم نيتشوي لا هيغلي، وفي اتجاه مضاد جوهريا للديالكتيك.
من جهة أخرى، هناك تصوّر الانقلاب بالمعنى الدقيق، بحيث إن الفكر الأصيل هو الذي يقلب الوضع الظاهر للأشياء: لا بد أن يحملنا هذا على التفكير بحضور هذا الموضوع حضورًا ملحًّا في مؤلفات ماركس في عهد شبابه(13).
تضمن العدد الثاني من السلسلة الأولى لمجلة وثائق الصادر في أيار/ مايو سنة 1928، مشاركتَين لباتاي: دراسة عن "رؤيا سان-سيفير" (Apocalypse de Saint-Sever) مخصّصة لزخرفات مخطوط إسباني من القرن الثامن، اكتشف فيها باتاي التقريظ الساذج والوحشي لقدرات الرعب، "التعبير المباشر عن التحولات المبهمة - وهي لذلك أكثر دلالة – بقدر ما هي ناتجة عن بعض الميول الحتمية"(14).
من جهة اخرى، افتُتح في المجلة باب جديد استمرّ بانتظام في الأعداد التالية هو "المعجم النقدي" وقد قُدم هذه المرة بملاحظة لباتاي عن الفن المعماري، الذي هو مظهر "الوجود المثالي للمجتمع، الذي يأمر وينهى بسلطان"(15). هذا "الفن المعماري" يرمز إلى الشكل المتجسد في فكرة والذي ينفّذ بواسطتها علاقة سيطرة من أجل إخفاء اللاشكل: "الانقلاب" المادي عليه أن يواجه بالضبط هذا التصور، كاشفا عن طابعه السلبي والارتكاسي بشكل جوهري.
كان العدد التالي الذي صدر في حزيران/ يونيو 1929 يتضمن أيضا نصَّين لباتاي لعلها الأهم في هذه السلسلة الأولى من مجلة وثائق، وهما: مقال عن "لغة الزهور" ومدخل جديد من "المعجم النقدي" يتناول "المادية".
كان النص حول لغة الزهور تعليقًا على صُور فوتوغرافية مكبّرة تمثّل أعضاء جنسية نباتية: انطلاقًا منها عرض باتاي ملاحظة حول المنطق الطبيعي للوجود والذي دعاه ذكاء الأشياء الغامض(16)، في مبدأ هذا المنطق يكمن تعارض قيم أساسي تتحكم فيه قطبية الأعلى والأسفل التي تشهد على "أنّ للطبيعة النباتية قرارًا غامضا"(17). هذا القرار يُعبَّر عنه بنوع من لغة قبل اللغة: لغة "الهيئة" السابقة للغة الكلمات، وهي تمهّد "لقيَم الأشياء الحاسمة"(18). هذه التقييمات لا تقتصر على أحكام تقيس الواقع بمقاييس خارجية من قبيل الملاءمة والمنفعة، بل هي بالأحرى أحكام الواقع ذاته، مؤكّدة بشكل أولي وفوري توجهاتها الأساسية. هذا التعبير المباشر السابق حتى للاتجاه نحو الترميز يعني، بحسب باتاي، أن حقيقة الأشياء ممثّلة هنا بالطبيعة النباتية، غير قائمة في حركة نحو التسامي كأن تدفعها من الأسفل نحو الأعلى وفق توجّه متصاعد أو تقدمي، بل هي حاصلة، على عكس ذلك في ما يشدها إلى الأسفل، ويردها دائما من الأعلى إلى الأسفل، أو لكي نستعيد تعبيرًا استخدمه ماركس في أول "الأيديولوجيا الالمانية"، مُنزلا إياها من السماء إلى الأرض(19): هكذا، وفق ديناميكية دورية واحدة في قلب القيَم وعلاقاتها الظاهرية، الديناميكية التي بعد فويرباخ (Feuerbach)، ساندت نظريات ماركس الشاب، ثم نظريات نيتشه، فإن الجهد نحو التسامي الذي يدعي رفع الواقع فوق ذاته وإلى ما يتعدى ذاته، ينقلب إلى عملية معاكسة تغرقه في أعماقه الباطنية. هنا أيضًا تتقاطع موضوعات المحورية والانقلاب.
في نص سابق لباتاي، كتَبه سنة 1927 ولم يُنشر إلا سنة 1931، الشرج الشمسي (L’anus Solaire)، أعطى وبأسلوب بالغ الحدة الترجمة السياسية لانقلاب القيم هذا: "إن موقع الذين تتراكم فيهم قوة التفجّر حتما في الأسفل. يبدو العمال الشيوعيون في نظر البورجوازيين قبيحين وقذرين كالأعضاء الجنسية والمكسوّة بالشعر أو كالأجزاء السُّفلى. عاجلا أم آجلا سينتج عن ذلك انفجار فاضح ستُقطع في أثنائه رؤوس البورجوازيين الخنثية والشامخة"(20)، في الوقت الذي أشير فيه إلى التكامل الدوري بين الحب والموت: مبدأ كل فلسفة باتاي، الشبقية الإيروسية، كانت الثورة تُشبَّه باشتعال طبيعي، بانفجار نضج في ثنايا الأشياء الغامضة، دافعة إياها باستمرار نحو الأسفل تبعًا لاندفاعها الأساسي.
إن مفهوم المادية، كما صيغ في العدد ذاته من المجلة في إطار المعحم النقدي (Dictionnaire critique)، كان يأخذ آنذاك كل معناه، في مقومة لمحاولات عودة مثالية، طُرحت ضرورة تجديد مادي للمادية، وذلك بربطها بتأكيد قيمها الأصلية، قيم "الأسفل": هكذا كانت توضع ملامح مفهوم مادي سفلي(21). ما كان ذا دلالة، بنوع خاص، في هذه الضرورة، هو الكشف عن مظاهر مفارقة (متناقضة ظاهريا) لأطروحة الانقلاب، وبالتالي وضع حدود لها. كان باتاي يقصد أن يقول بدقة ما يلي: ما إن تطرح العلاقة بين "أعلى" متجسد في الروح أو في الفكرة، و"أسفل" متجذر في طبيعة مادية، فإنه لا يكفي تبديل اتجاه قطبي هذه العلاقة، وذلك بقلب نظام القيم تاركين البنية التراتبية ثابتة، مخضعين الواحد للآخر، كأن ننسب للمادة مكانة جديدة داخل هذه العلاقة، منشئين إياها كأساس أو كسبب، واضعين الروح في عملية تبادل، تحت تبعيتها. ذلك أن عملية كهذه ما كان باستطاعتها أن تنتج في النهاية غير مثالية جديدة مُعيبة ومقنّعة، مانحين المادة الدور الذي كانت تشغله في السابق الروح. هكذا، جعل المادة مثالية أو جعل الفكرة مادية يعني دائما إدراج الضرورة المادية في منظار السيطرة ومنْح الأفضلية لقيمة عليا بالنسبة إلى قيمة سفلى، في رجوع ضمني إلى السلبية(22). المادية الحقيقية يُفترض أن تكون عكس ذلك، أي أن تتخلص من محاولة التبرير ذات الاستيحاء التنظيمي أو القانوني وأن تنحصر في "التفسير المباشر للمظاهر الأولية"(23).
كيف السبيل إلى إعادة تقييم الأسفل من دون أن تتطابق مع حركة جعله مثاليا؟ كيف نثبّت تحديدات الأسفل الذاتية دون أن نشوّهها بإعلاننا إياها؟ لإبراز صعوبة مسيرة فكرية كهذه، تكلم فوكو في النص الذي خصصه لباتاي عن "إثبات غير إيجابي"(24): هكذا انفتح فضاء انتشارها على فكر نقدي أصيل لم يعد يخلط بين الاثبات والتبرير، بل على العكس يجعلهما متعارضين. من أجل إعادة القدرة الفعلية للأشياء السفلى، وضع باتاي في مقال المادية (Matérialisme) من المعجم النقدي، وبشكل متناوب، مادية مجردة "للمادية الميتة"، ومادية حسيّة "مبنية مباشرة على الأفعال النفسية أو الاجتماعية، وليس على مجردات كالظواهر الفيزيائية المعزولة بشكل مفتعل"(25). هذه الفكرة المهمة سوف يُعاد تناولها من جديد وتوسيعها بعد بضع سنوات في المقال الذي كُتب سنة 1932 بالاشتراك مع كينو لمجلة (Critique sociale) بموضوع نقد أسس الجدل الهيغلي(26) (La Critique des fondements de la dialectique hégélienne)، في هذا النص، نموذج السيرورة المادية المتجسدة في "جدل الواقع" كان يتمثّل بظواهر مقاومة غريزية (Opposition pulsionnelle) يدرسها علم النفس التحليلي، و"منطقها" القطبي المبني على مبدأ اجتماع الضدين (Ambivalence)، تم التوسع به بحيث يتناول الطبيعة والتاريخ، في الآن ذاته، وبحسب فكرة من الممكن أن نجدها أيضًا عند بوليتزر (Politzer) في الفترة ذاتها، هي أن فكرة الحسي يجب أن تُستبعد من التعارض بين الذاتي والموضوعي، لأن هذا التعارض يُعتبر مفتعلا. عندها، تكون بالتالي محاولة تحويل الموضوعي إلى الذاتي أو الذاتي إلى الموضوعي محاولة باطلة.
لكي ننهي هذا العرض سنكتفي بذكر عناوين المقالات التي نشرها "باتاي" في الأعداد التالية للسلسلة الأولى من مجلة وثائق:
شكل إنساني (Figures humaine) (حول صور فوتوغرافية عائلية وجماعية من أواخر القرن التاسع عشر)، جولة حول العالم في ثمانين يوما (Le Tour du monde en quatre-vingt jours) (حول مشهد عُرض في شاتليه Châteletالإبهام الكبير (Le Gros orteil) (حول تكبير فوتوغرافي لهذا العضو "الأسفل")، اللعب المحزن (Le Jeu lugubre) (حول لوحة لسلفادور دالي)، بالإضافة إلى أبواب جديدة في المعجم النقدي: العصافير السوداء (Black Birdsالعين (Œilالجمل (Chameauالمصيبة (Malheurالغبار (Poussièreهوليوود (Hollywoodالمسلخ (Abattoirمدخنة المصنع (Cheminée d’isineالتحول (Métamorphoseاللاشكل (informe). هذه النصوص التي كانت أولا ذات دلالة بتشتت مواضيعها الظاهري، تعالج جميعها "الضرورة السائدة للجوء إلى الفضيحة"(27).

جدال مع بروتون
في نهاية سنة 1929، بعد أن كانت قد طُبعت كل نصوص باتاي التي ذكرناها منذ قليل، أصدر أندريه بروتون (A. Breton) البيان الثاني للسوريالية (Second Manifestedu surréalisme) في العدد الثاني عشر من مجلته الثورة السوريالية (La Révolution surréliste). وقد جاء هذا البيان في ظرف عصيب من تطور هذه الحركة التي كانت تحاول أن تستعيد نفسًا ثانيًا، إذ كانت تتطهر لتوضع في خدمة الثورة، بحسب العنوان الجديد للمجلة التي سيستمر ظهورها تحت هذا العنوان السوريالية في خدمة الثورة (Le Surréalisme au service de la révolition). لقد كان هذا البيان الثاني المعاصر تمامًا لكتابات باتاي التي ذكرناها منذ قليل نصا نظريا أساسيا، عُرضت فيه ظروف المصالحة بين المخيلة الشعرية والعمل السياسي انطلاقا من أطروحة ذات استيحاء ديالكتيكي سيرجع إليها غالبًا بروتون وتلاميذه في ما بعد: "كل شيء يحملنا على الاعتقاد أن هناك نقطة ما في الروح حيث الحياة والموت، الواقعي والخيالي، الماضي والمستقبل، ما يمكن إبلاغه وما يتعذر إبلاغه، الأعلى والأسفل يبطل إدراكها كأضداد... النقطة التي نقصدها هنا، هي بالأحرى، حيث البناء والهدم لا يعودان قادرين على أن يقف الواحد منهما في وجه الآخر"(28)، في هذا المقطع حيث تُطرح فيه، من جملة ما يُطرح، إقامة التواصل بين الأعلى والأسفل، يبدو بروتون أنه يلتقي بالطريق الذي سلكه باتاي إذ كان قد كتب في السنة السابقة في قصة العين (Histoire de l’œil) "ما يبدو لي أنه نهاية إسرافي الجنسي: توهج هندسي (من بين نقاط أخرى، نقطة تطابق الحياة والموت، الوجود والعدم) ساطع سطوعًا تامًا"(29)، في الواقع يبدو أن الوهج ذاته يخترق نصوص بروتون ونصوص باتاي: ولكن النقطة السامية التي يحاول كل منهما أن يمنحها موقعًا، بين الحياة والموت، كانت أيضًا النقطة التي تجعلهما متعارضين، وخصوصًا أنهما مرّا متقاربَين جدًّا أحدهما من الآخر. نتيجة ذلك اندلع سجال عنيف بينهما ستؤلف مسألة الجدل الرهان الرئيسي فيه.
الصفحات الأخيرة من بيان بروتون خُصّصت لنقد لاذع طويل موجّه إلى "السيد باتاي". اعترف بروتون لموقف باتاي بصرامة لا جدال فيها: من هنا الحيز المتميز الذي خصه به في تصفية الحسابات الشاملة التي هي قوام نصه. استنكر بروتون عند باتاي "الهلع من الفكرة" (La Phobie de l’idée)، الذي هو، كما يرى، في أساس محاولته إعادة تحديد المادية(30)، في أول هذا النقد اللاذع ارتكب بروتون الذي لا شك أن سورة الغضب أضلّته، زلة قلم مستهجنة، وذلك بإثباته مقطعا من مقال المادية في المعجم النقدي بطريقة مغلوطة، فهو كتب فعلا: "مع السيد باتاي، لا شيء إلا وهو معلوم تمامًا، نشهد عودة الهجومية للمادية القديمة المضادة للجدل التي تحاول هذه المرة أن تشقّ لها، مجانًا، طريقًا عبر فرويد. "المادية" كما يقول "تفسير مباشر، يستبعد كل مثالية (شدد بروتون على هذا التعبير) للظواهر الأولية، ولكي لا يُنظر إليها كمثالية عاجزة، يجب أن ترتكز مباشرة على الظواهر الاقتصادية والاجتماعية"، فيما أنه لم تُذكر هنا بالتحديد "المادية التاريخية" (وكيف يمكن ذلك؟) فنحن مضطرون أن نلاحظ أن التعبير من وجهة النظر الفلسفية غامض، ومن وجهة نظر شعرية الجدّة، فإنه عديم القيمة"(31)، غير أن باتاي كان قد كتب، كما سبقت الإشارة إلى ذلك: "سيُنظر إلى المادية كمثالية عاجزة ما لم تؤسَّس مباشرة على الوقائع البسيكولوجية (نحن نشدد على التعبير الأخير) أو الاجتماعية، وليس على مجرّدات كالظواهر الفيزيائية المعزولة بشكل مفتعَل"(32). إذ أحل بروتون تعبير "الاقتصادية" محل "البسيكولوجية"، وارتكب خطأ عن سهو أو لضرورات الجدل، محا نصّ باتاي أثر التجديد الذي كان يتضمنه هذا النصّ، وأعاده إلى مجال التكرار المبتذل حول الحتمية الاقتصادية والاجتماعية المتماهية بشكل نهائي مع المادية المناقضة للمثالية.
إذًا، بسبب مفهوم باتاي للمادية هاجمه بروتون باسم ما بدا بالمقابل أنه مثالية: "يثير السيد "باتاي" اهتمامي فقط بقدر ما يتباهى أنه يواجه نظام الروح، الذي نقصد بالفعل إخضاع كل شيء له –ولا نجد ضيرًا أن يُجعَل هيغل مسؤولا عنه بشكل رئيسي– بنظام لا يتوصّل حتى أن يبدو أكثر وهنًا، لأنه يطمح إلى أن يكون نظام اللاروح (وإنما هنا ينتظره هيغل)"(33). يمكن أن نعتقد، لدى قراءة هذه الأسطر، أن بروتون قد تمتّع بشعور مُسبق بالطروحات التي توسّع فيها باتاي بعد ذلك بنحو عشر سنوات في كتابه التجربة الداخلية (L’Expérience intérieure) وفي الممارسة التقشفية للّافكر التي دعا إليها هذا الكتاب. حتى ولو اتخذت هذه الممارسة، على طريقة رياضة روحية شكل السلوك الاقسى والأكثر راديكالية، فإن الصراع ضدّ الروح في نظر بروتون، حتى ولو كانت تقوده الروح، بل لهذا السبب بالذات وبنوع خاص، لا يمكن أن يكون له إلا معنى الإذلال، إذ ينفى إمكانية وجود التحويل الشعري، أي تحويل الواقع إلى مثال، وهو الذي على العكس من ذلك تبشّر به السوريالية.
في صميم هذا النقاش نجد التفسير للفلسفة الهيغيلية. كان بروتون يبحث آنذاك في اتجاه الجدل عن وسيلة توصله إلى مصالحة الأضداد (الأسفل والأعلى، الواقع والخيال، الثورة والشعر): وهو سيكرّس لهذا الموضوع مؤلفا كاملا، الأوعية المتصلة (Les Vases communicants) (1932) الذي مثّل حقبة لا يمكن تجاهلها في تاريخ الفلسفة الهيغلية في فرنسا قبل أن يفتتح كوجيف درسه. يعكس ذلك، وكما رأينا، أخذ باتاي وجهة مادية "منزوعة الديالكتيك"، إذا صح التعبير، متكهنا بالعودة إلى الأشكال الأولية والمباشرة للواقع الطبيعي باسم انقلاب القيم بنمط نيتشوي، وهذا كان ينفي فورًا إمكانية الوصول بتناقضات الواقع إلى لحظة حلّها النهائي الذي يمكن أن يعني اختزال الأسفل بالأعلى أو استعادته باسم "مثالية عاجزة". وكان باتاي قد استخدم هذا التعبير بالضبط ليصف السوريالية.
رد باتاي على هجوم بروتون أولا بمشاركة مختصرة، ولكن بالغة الحدة، في الرسالة الهجائية الجماعية جثة (Un Cadavre) التي نشرها ضحايا "البيان الثاني"، عنوان النص الذي كتبه لهذه المجموعة كان الأسد المخصي(34) (Le Lion chaté). عُرضت السوريالية فيه "كدين جديد"، كانبعاث للمثالية بشكل هروب أمام الواقع ومظاهره البالغة القذارة التي استُبدلت بعالم شعري نهائيا، وخيالي، وخارق. أيديولوجية التحرر هذه التي أنكر باتاي طابعها الاصطلاحي، واجهها بعدم القبول: "باستثناء ذواقي جمال لا يستهوون أحدًا، لا يوجد إنسان يريد أن يُدفن في تأمل أعمى وأبله، لا أحد يرغب بحرية خرافية". من جهة ثانية، وعلى مستوى آخر مختلف، بعيدًا عن القدح، سيرد باتاي على حجج بروتون ردًا نظريًا: إنه المقال بعنوان المادية الدنيا والغنوصية(**) (Le Bas matérialisme et la gnose) الذي افتتح في أول سنة 1930 السلسلة الثانية من مجلة وثائق.

المادية الدنيا: أنثروبولوجيا جديدة
عالج باتاي في نصّه عن المادية الدنيا والغنوصية، على هامش صور لأحجار غنوصية محفورة محفوظة في غرفة الميداليات، عددا من التأملات الفلسفية ذات أهمية خاصة، على الأقل لأنها تلقي الضوء مُسبقا على تطور تفكيره اللاحق كله(3).
لكي يبدأ، وكما فعل سابقا في مقال المادية في المعجم النقدي، أعاد باتاي للمناقشة طريقة طرح التناقض بين المادية والمثالية كما عُرضت تقليديا، وهي طريقة عرض مفتعلة في نظره: في جعل إحدى النزعتين تنافس الأخرى في إطار علاقة سلطة تراتبية، حيث كل واحدة تناضل في سبيل الحصول على وضع مسيطر، أو للمحافظة على هذا الوضع، نكون قد نصبنا "منصّة ميتافيزيقية" امحت في داخلها قطبيتهما الحقيقية، إذ أحيلت إلى مقاييس أحادية تضمن السيطرة للواحدة أو للأخرى، وفي سياق كهذا، سيان معرفة أي من المادية أو المثالية هي الرابحة في هذه المنافسة، إذ يبقى الأمر الأساسي، في جميع الحالات، أن طرفا واحدا هو المتفوق(36). وإذ يعرض باتاي أن الصراع التقليدي بين المادة والصورة، في ما يتعدى رهاناته الفكرية الظاهرة، أو ما هو دونها، قائمٌ فعلا على أرض السلطة –وهو يشدد في تحليله على أن الاوّلية المتعرّف بها بالتناوب مرّة لهذه النزعة ومرّة لتلك. لا يمكن أن يكون لها معنى إلا في أفق "نظام إجتماعي"، وتكون الميتافيزيقا هنا ترجمة لسياسة –هكذا، انقاد باتاي إلى التطرق إلى القضية الفلسفية الخاصة بالأحادية: فأظهر أن التعاقب الحقيقي ليس بين المادية والمثالية، بل هو قائم في داخل "المادية" ذاتها فاصلا بين تفسيرين ممكنين لها. التعارض الحقيقي هو إذا بين مادية أحادية أو ميتافيزيقية تختزل الواقع كله في مبدأ واحد، وتغلّب سلطة هذا المبدأ الواحد ("المادة المجردة")، وبين مادية ثنائية تؤكد الانقسام الجوهري لكل ما هو موجود وتمتنع عن استيعاب التناقضات الكامنة فيها.
لكي يدعم باتاي مفهومه لمادية ثنائية، اعتمد إدخال مرجع خرافي في قسط كبير منه، هو الرجوع إلى الغنوصية، وقد أدخلها انطلاقًا من إعادة تقييمه للديالكتيك الهيغلي، فقد عرض له تفسيرا غير منتظر، معيدا إياه إلى أصوله الغنوصية البعيدة: "إنّ الهيغلية، بقدر ما هي الفلسفة الكلاسيكية في عهد هيغل، صادرة، كما يبدو، من مفاهيم قديمة جدًّا، مفاهيم عالجها الغنوصيون، من بين مَن عالجها، في عصر كانت الميتافيزيقا فيه مقترنة بنظريات نشأة الكون الثنائية الأكثر مسخًا، وبالتالي الأكثر انخفاضًا"(37). مناقشة الواقع التاريخي لصدور الهيغلية، ليست هنا شأنًا مهمًا: ما هو مهم، بنوع خاص، هو التقريب الذي قام به باتاي بين منظور ثنائي وبين إعادة تقييم القوى السفلى، في سياق ميتافيزيقا "منخفضة" حسب تعبيره الشخصي. يعني هذا بوضوح أن روح المادية الأصيل لم يكن لينفصل عن عقيدة ثنائية في الانفصال والانقسام، سواء كُرّست باسم "الغنوصية" أم لا. كنتيجة لذلك، عقيدة الانقسام هذه هي وحدها قادرة أن تمنح الديالكتيك مضمونًا واقعيًّا وفعالًا(38).
باختصار، كان بإمكان باتاي أن يستخدم العبارة المشهورة: الواحد ينقسم إلى اثنين، وهذه الصيغة كانت تمثل أمام عينيه على أفضل وجه، وكما لو كان ذلك من خلال صورة أصلية، في التجربة الجنسية لحظة الخلق الأول.
في مقال أُسس الجدل الهيغلي (Les Fondement de la dialectique hégélienne) الذي نُشر بعد سنتين في مجلة نقد اجتماعي (Critique sociale)، كان على باتاي وكينو أن يشرحا بالضبط أن التحليل النفسي عندما نظّر هذه التجربة الأولية وكشف ظواهر التجاذب الوجداني (Ambivalence affective) قد فتح الطريق لإعادة تحديد المادية والدياليكتيك في سياق فرويدي-ماركسي قبل أن يكتمل. على هذا الأساس، استعاد باتاي أطروحة "النواة العقلية" للديالكتيك مؤوّلا إياها على طريقته الخاصة وفق توجّه مناقض لتوجه "المذهب العقلاني": فقد أظهر أنه حتى ولو أحلّ هيغل غائية في سيرورات الواقع المتناقضة، أي بقلبه "الواحد ينقسم إلى اثنين" إلى "الاثنان يتصالحان في الواحد"، فإنه أعاد تأسيس الثنائية البدائية على أحادية جديدة، وقدّم هكذا الديالكتيك "في حالة مختزلة ومخصية"، ومع ذلك فإنه يكون قد احتفظ، في ما وراء هذا الكبت، بأثر لحركة الانشطار الأصلية التي تفصل وتقسم كل الواقع، وهو انشطار تُشكل "مثاليته"، بالضبط، إنكارًا له.
بعد فترة طويلة، عاد باتاي إلى هذه القضايا ذاتها، عارضا في مجلة نقد (Critique) سنة 1947 لكتاب بيتريمان (S. Pétrement) الثنائية في تاريخ الفلسفة والأديان(39) (Le Dualisme dans l’histoire de la philosophie et des religions). ما أثار اهتمام باتاي بنوع خاص في أبحاث بيترمان، فكرة أولية الثنائية بالنسبة للأحادية من الناحية التاريخية والنظرية، واعتبار الفكر الاحادي الخاص بالميتافيزيقا التقليدية، إعادة تفسير مختزلة لثنائية أولى، في هذا المنظور، كانت بيترمان تتكلم عن "ثنائية متعالية" تجد شكلها النموذجي في الفلسفة الافلاطونية التي انطلاقا منها، اشتق أرسطو، في رأيها، مذهبا فكريا أحاديا. هذا التحليل ثبّت باتاي في التفسير الذي اعطاه للروح الغنوصي الذي يؤكد، خارج كل إمكانية استعادة ومصالحة، الطابع الأصلي للانقسام الذي لا يقبل الاختزال: وهكذا، بما أن كل شيء منذ البدء منقسم، وثنائي، فإن الواقع ذاته إذ يُنظر إليه في مجمل مظاهره، يجب أن يصدر من هذا الانقسام الجوهري الذي لا شيء قبله، وما من وحدة يمكن أن نفكر فيها.
لماذا نُسب الاعتراف بهذا الانشطار الأولي إلى الغنوصية؟
من دون شك لأنها تشكل لباتاي نموذج حضارة خفية، تغرق في سخرية فاضحة مبادئها الخاصة. ولكن، إذ نقول ذلك، لا يمكن للغنوصية أن تلعب في هذا التفسير إلا دورا ثانويا في إعداده، إذ تستر بخرافة خادعة عملية أعمق بكثير. بالفعل، فإن الثنائية التي كان يفكر فيها باتاي لم تكن ثنائية أنطولوجية تواجه "أشياء" أو نواحي من الواقع في ما بينها. وبالضبط، فإن الأطروحة التي دافعت عنها بيتريمان انطلاقا من إرجاعها إلى الفلسفة الأفلاطونية بشكل رئيسي، بلغت عند هذه النقطة حدها الأقصى. بل هي كانت ثنائية قيمية (تتعلق بالقيَم)، وأفضل مظهر لها يتجلى في الفصل بين المقدس والمدنّس: هنا نستعيد تعارض السماء/الأرض كما عُبّر عنه بوضوح في جوهر المسيحية (L’Essence du christianisme) لفويرباخ (Feuerbach)، وكما انتقل بعد ذلك إلى كتابات ماركس في صباه التي اعيد اكتشافها خلال سنة 1920.
هكذا، وبالتوازي مع إعادة قراءة أفلاطون على أساس مقارنته بأسرار الغنوصية، كان باتاي يهدف إلى الكشف عن معنى حركات فكرية كانت رهاناتها أقرب وأبعد في آن واحد.
إنّ الصراع "الديني" بين الإلهي والأرضي، كما شكلت موضوعاتها الديانة المسيحية، كان في رأي بيتريمان الصدى المنتقل لصراع فلسفي جوهري كان قد تحدد موقعه في إطار اليونان الوثنية وقد سبّب تعارضًا حول نقطة ميتافيزيقية أساسية بين أفلاطون وأرسطو، والطروحات الغنوصية لم تفعل سوى تقديم شهادة لاحقة عن هذه المناقشة. ولكن باتاي كان يفكّر في أنه من الضروري الرجوع إلى ما قبل هذه المناقشة الفلسفية بحصر المعنى، وذلك للوصول إلى أسئلة أكثر اتصالا بالأصل، وهي أسئلة كانت قد طُرحت على مستوى آخر.
اقترح فوكو تفسيره الخاص للموقف الذي دافع عنه باتاي، وذلك في النص الذي خصّه به سنة 1963 وهو بعنوان مقدمة للانتهاك(40) (Préface à la transgression). هذا التفسير الموسوم بمراجع هايدغرية بشكل بارز، يحاول أن يثبت أن تجربة الانقسام الأصلية، بما أنها أفسحت المجال لانشطار المنفتح (Scission de l’ouvert) يجب أن يُبحث عنها في اتجاه البوادر الأولى للتعبير عن الفكر اليوناني، في المرحلة السابقة للميتافيزيقا وطرحها لقضية الكينونة. إذًا، عند الفلاسفة السابقين لسقراط، وبنوع خاص عند هيراقليطس (Héraclite) وُجد الشكل الأوّلي الساذج تقريبا للجدل الثنائي القائم على أن "الواحد ينقسم إلى اثنين".
ولكن إذا عدنا إلى النصوص التي كتبها باتاي، ندرك أنه كان يقصد أن يمنح الأهمية لأصل أكثر راديكالية أيضا، وهو أصل لا يسبق الميتافيزيقا فحسب (أطروحة بيتريمان) بل يسبق أيضا الفكر الغربي بصفته الحالية (أطروحة هايدغر)، وقد اعتمدها من جديد فوكو، وذلك لأنه يُرجعها إلى البدايات الأولى للتطور الإنساني(41). وبالواقع، ما كان يهدف إليه باتاي من خلال إحالته الجمالية والشعرية إلى الثنائية الغنوصية، كانت تجربة تقسيم القِيَم في زمن ما قبل التاريخ، كان يُفترض أن يكون قد تم ذلك عند مفصل الطبيعة والثقافة، حينما انقلبت الأولى في الثانية وبالتالي انفصلت عنها.
وهكذا، فإن "المادية الدنيا" عند باتاي، في ما يتجاوز التفسيرات المجازية التي كانت تسوّغها أسرار الغنوصية، ومن غير أن يؤخذ هذا المرجع الأخير مأخذ الجد تاريخيًا، وجدت معناها الحقيقي في رؤيا نظرية، مقولاتها هي بشكل رئيسي مقولات أنثروبولوجيا. على هذا المستوى، استُغلت كذلك تعاليم موس (Mauss) منعكسة من خلال النماذج الفكرية المقتبسة في آن واحد من هيغل وفرويد، فقد أخذ باتاي من موس مبدأ البنية الثنائية والمنقسمة للسلوكيات الإنسانية ولأشكال الوعي المرتبطة بها. ما إن يثبت بالفعل أن هذه السلوكات والأشكال لا تنطوي، إلا بالوهم، على وحدة متجانسة لـ "ذات"، أو لـ"أنا"، فإنه ينتج عن ذلك أنها تُطرَح من خلال علاقة نزاعية تربطها مباشرة، ليس فقط بآخرين، بل بالآخر، باعتباره آخر، الذي يقسمها شكلُه رمزيا من الداخل.
هكذا نفهم لماذا الفعل الانساني بامتياز هو الذي يضع المدنس في مواجهة المقدس: إنه يؤلّف الجوهر الإنساني طابعًا إياه منذ نشأته بانفصام لا يمكن التغلب عليه. الدين إذًا لا التقنية هو الذي يحدد الإنساني كإنساني، من حيث هو قائم في علاقته بحد يخترقه من الداخل ويمنعه من التماهي مع ذاته ومن أن يكتفي بالامتلاء المجرد لكيانه المعطى له ببساطة: إننا نفهم كيف أن نظرية الرغبة (Begierde) التي عرضها كوجيف وهي عنده في علاقة بوعد الإشباع (Befriedigung) الذي يتطابق مع زمن نهاية التاريخ، ستطلق في السنوات التالية هذا التفكير النظري، في ملاحظات غير منشورة كتبها باتاي سنة 1930، أي في السنة ذاتها التي كتب فيها مقاله المادية الدنيا والغنوصية (Le Bas matérialisme et la gnose)، نجد هذه العبارة المدهشة: "الإنسان هو ما ينقصه"(42) التي يمكن أن نرى فيها، ونحن ما نزال في الأفق النظري ذاته، النواة الأولى لنظرية لاكان (Lacan) في الانشطار(***) (Spaltung). بل إن هذه العبارة تحمل بذور كل موضوعات "سوسيولوجيا المقدس" كما سيعالجها باتاي بعد سنة 1936 في نطاق "معهد السوسيولوجيا". ويأتي جزء من هذا الأفكار من موس، وبواسطته من مؤلف الأشكال الأولية للحياة الدينية(43) (Forme élémentaires de la vie religieuse) لدوركايم (Durkheim) وقد شكل كلاهما ينبوعا أساسيا لتاريخ الفكر الحديث بأجمعه.
الإنسان هو ما ينقصه: وهذا يعني أنه ليس كائن حاجة، بل هو حيوان رمزي، كما اكتشف موس، عندما دمج بطريقته الخاصة تعاليم دوركايم وفرويد. وهو لا يتألف كما يتألف الشيء بتراكم اقتصادي لممتلكات وثروات، بل هو "ذاتٌ" منقسمة، تخترقها، تبعا لدفقات الهبة والتضحية، العلاقات الجماعية التي تجعله يتواصل مع أناس آخرين، بواسطتهم مع الطبيعة بأسرها، في كتاب القسم الملعون (La Part maudite) الذي نُشر بعد الحرب العالمية الثانية، جمع "باتاي" هذه الدفقات ودورات التبادل في إطار "اقتصاد عام" يعمل بالإنفاق، مقابل "اقتصاد محدود" يعمل بعكس ذلك، أي بالتملك. كل ذلك كان نتيجة منطقية لدفاعه عن "المادية الدنيا" وتقريظه لها.
انطلاقا من هذه الإيضاحات يمكن أن نعيد قراءة خاتمة المقال المادية الدنيا والغنوصية(44) وأن نشرح شيئا فشيئا: "يبدو في نهاية الأمر أن الغنوصية في سيرورتها البسيكولوجية/ هكذا يتأكد لنا أن الغنوصية لم تسترع انتباه باتاي باعتبارها عقيدة تاريخية مفترضة، بل كظاهرة بنية ذهنية مكوِّنة للقسمة التي تفصل الإنساني عن غير الإنساني/ ليست مختلفة كثيرا عن مادية بالمفهوم الحالي، أقصد مادية لا تتضمن أنطولوجيا، مادية لا تتضمن أن المادة هي الشيء في ذاته/ نفهم هكذا في أي معنى كان باتاي قد تكلم، في مكان آخر، عن "مادية الوقائع البسيكولوجية والاجتماعية"/ ذلك أن المقصود قبل كل شيء عدم خضوع الذات، وبالتالي عدم خضوع العقل، لشيء أعلى/ هنا بدأ يرتسم موضوع السيادة، ويأتي معه رفض مبدأ السلطة الذي يُمارس حصرا لصالح "أعلى"، ويأتي معه بالتالي الاعتراف بالقيم الخاصة "بالأسفل"/ الخضوع لأي شيء يمكن أن يمنح الكائن الذي هو أنا، ويمنح العقل الذي يتحلّى به هذا الكائن، سلطة مستعارة. بالواقع، هذا الكائن، أي هو وعقله، لا يمكن أن يخضع إلا لما هو أسفل منه، لما لا يمكن أن يُستخدم في أي حال لتقليد أي سلطة كانت/ من هنا كان يتم إذا التواصل بين الإلهي والشر: القيام بعملية قلب القيَم لا يعني وضع ما كان في الأسفل مكان ما هو في الأعلى بتطهيره من بُعده المخالف للإجماع، بل على العكس يعني تأكيد بل ترسيخ سفالة الأسفال إذا صح التعبير مقدسين إياها، دافعين إلى الأعلى، أي إلى جانب المُدنس، كل ما يمكن أن يدعي سلطة مبدأ أعلى/ وانا أخضع كليا لما يجب أن يدعي مادة، لأنها موجودة خارجا عني وخارج الفكرة، وبهذا المعنى لا أقبل أن يصبح عقلي حدا لما قلت، لأنني، إذا تصرّفت هكذا، فإن المادة التي حددها عقلي تأخذ حالا قيمة مبدأ أعلى... المادة السفلى هي خارج الطموحات الإنسانية المثالية وغريبة عنها، وهي ترفض أن تتحول إلى الماكينات الأنطولوجية الكبري الناتجة عن هذه الطموحات. هكذا فإن المادية الأصلية، أي المادية الدنيا، هي التي "تخضع" للمادة باعتبار أنها لا يحددها العقل من الخارج كما يحدد شيئا، بل تُنتج حدودها هي ذاتها في ذاتها، وبديناميتها الخاصة الكامنة فيها: أي أنها غير المحدود الذي يتحدد بقوته الذاتية المتمددة بلا هدف ومن دون إمكانية استعادة أو استخدام، أي خارج منظور الخلاص، بشكليه الاقتصادي واللاهوتي(45).
جرت العادة أن يعالَج فكر باتاي كأنه نيزك لا مداخل له ولا مخارج. ولكن درسًا متأنيًا لنصوصه الأولى يظهر إلى أي حد هذا المنحى في الدراسة غير كاف. وبعكس ذلك، إذا لم يكن مطروحا استيعاب هذا الفكر في تقليد يمنحه امتدادًا، إذ يكسبه شهرة، ولكن دون إضافة أي شيء إليه، فيجب أن نعيد إليه تسجيله التاريخي الذي يضعه، تماما، في المفصل بين الحركات الفكرية الكبرى في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، في المقال السجالي الذي خص سارتر به كتاب باتاي، وهو بعنوان التجربة الداخلية(46) (L’Expérience intérieure)، نقرأ ما يلي: "بكلمات: "لاشيء"، "الليل"، "اللامعرفة التي تعري" قدم لنا السيد باتاي نشوة حلولية صغيرة... استبدل اللاشيء المطلق عند باتاي بكينونة الجوهر المطلقة، فنحصل على حيلولة سبينوزا (Spinoza)... مذهب سبينوزا حلولية بيضاء، وحلولية باتاي سوداء"(47). لقد أقام سارتر هذه المقارنة من منظور تحقيري. ولكن، باستطاعتنا أن نستعيد منه المبدأ ونفسّره تفسيرا آخر: محاولة باتاي التي هي وسط بين الفلسفة والشعر، يُنظر إليها عندئذ كانبعاث خفي للتراث الحلولي الكبير، مواز ومخالف لأشكال المادية الكلاسيكية منذ أواخر القرن الثامن عشر.
ما يثير الاهتمام بنوع خاص في هذا الانبعاث، هو أننا نشهد معه عودة الافتتان الغامض بالأشياء السفلى. إن باتاي، إذ يعترف بأن لهذه الأشياء قيمة يتعذر استبدالها في إطار محاولته لإعادة التأسيس النظري والأدبي للمادية، كما يُكمل، ربما من دون معرفة منه، حركة فكرية بدأت قبل ذلك بقرن، وهي التي حددت موقعه الخاص في مجال فلسفة الأدب.

الهوامش:
(1) انظر: Michel Leiris, « De Bataille l’impossible à l’impossible Documents. » Critique, nos. 195-196 (aout-septembre 1963).
(2) هذا النص الذي نُبش بعد وفاة باتاي، يسجّل نوعا من نقطة منفّرة لجميع آثاره التالية التي تبدو مراحلها أنها قُطعت من أجل إلغائها. حول هذه النقطة أنظر التأملات التي توسّع فيها هوليه في كتابه المهم عن باتاي، أنظر: Denis Hollier, La Prise de la concorde : Essais sur Georges Bataille, le chemin (Paris : Gallimard, 1974).
(3) انظر: La Révolution surréaliste, no. 6(1926), pp.2-3
(4) لا شك أن الكتابة الإباحية مثّلت عند باتاي وسيلة فضل، في هدف إعادة إنشاء ظروف أدب سرّي، اصطناعيًا، مواز وهامشي، وفق الهدف الذي أعلنه في إحدى أشهر عباراته: "أنا أكتب لكي أمحو اسمي"
(5) المقصود عرض لأهم موضوعات فلسفة برغسون، حيث يخلص إلى قلب التمثيل المألوف للعلاقة بين الممكن والواقع: "إنما الواقع هو الذي يتحول إلى ممكن وليس الممكن الذي يصبح واقعا"، انظر: Henri Bergson, La Pensée et le mouvant, 3émé édition (Paris : PUF 1955), p. 115
لا شكّ توجه هذه الفكرة الديناميكي والمنفتح قد أثّر في باتاي وإلى حدّ ما ألهمه.
(6) يبد أنه تأثّر تأثرا خاصا بقراءة "في ما يتعدّى الخير والشرّ".
(7) انظر: Elisabeth Roudinesco, La Bataille de cent ans : Histoire de la psychanalyse en France (Paris : Edition Ramsay, 1982-1986), pp. 358-359.
(8) شارك باتاي بالترجمة الفرنسية لكتاب شستوف (Chestov)، انظر: Lev Isaakovitch Chvartsman Chestov, L’Idée de bien chez Tolst et Nietzsche, philosophie et prédication, traduit du russe par T. Rageot-Chestov et G. bataille, introduction de Jules de Gaultier (Paris : J. Vrin, 1949)
(9) انظر: Alfred Métraux, « Rencontre avec les ethnologues » Critique, nos. 195-196 (aout-septembre, 1963), p. 683
(10) هذا الهدف كان حُدّد في النص العام الذي قُدمت به المجلة، ويبدو أن واضعه هو باتاي. "نواجه هنا، بشكل عام الأحداث المثيرة للقلق، تلك التي لم تحدّد معرفتها، في هذه الأبحاث المتعددة، طابع النتائج أو المناهج العبثي أحيانا، بدل أن يُستر كما يحدث ذلك دائما مراعاة لقواعد اللياقة، فإنه سيشدد عليه عمدا، وذلك بغضا للامتلاء ومن أجل الفكاهة، على حد سواء"، انظر: Georges bataille, Documents, édition établie par Bernard Noël (Paris : Mercure de France, 1968). P.12.
(11) يمكن أن نرى ها صدى للبراهين التي يقدمها برغسون في بحثه عن الممكن والواقع (Le Possible et le réel)، في موضوع تفسير اللانظام كغياب للنظام.
(12) انظر: Georges bataille. Œuvre complètes, 12 vols., présentation de Michel Foucault (Paris : Gallimard, 1970-1988), vol. I : Premiers écrits, documents, p.160.
(13) وسائل إقامة توليف بين أفكار ماركس في عهد شبابه وافكار نيتشه، تبدو أنها معطاة بواسطة نوع من نزعة هيرقليطية بدائية: "كل الانقلابات التي يبدو أنها تنتسب بشكل خاص لليل الإنساني، ليست سوى مظهر من مظاهر هذا التمرد المتناوب، ترجح عنيف، يثور مع حركات غضب، إذا واجهنا، بشكل اعتباطي، في فترة زمنية قصيرة، تتابع ثورات دامت بلا انتهاء، فهي تضطرب وتزيد كموجة في يوم عاصف"، المصدر نفسه، ص 163. ولنورد كذلك هذا المقطع: "القرود والغوريلات القبيحة المنظر في فصيلة الخيل لدى الغاليين (Gaulois) هذه الحيوانات ذات الأطباع القذرة والشديدة القبح، مع ذلك هي ظهورات هائلة، معجزات مدهشة، فهي تشكّل هكذا جوابا حاسما من الليل الإنساني، المثير للسخرية والمخيف، على تفاهات وعجرفات المثاليين"، المصدر نفسه، ص 162.
(14) المصدر نفسه، ص 169.
(15) المصدر نفسه، ص 171.
(16) المصدر نفسه، ص 174.
(17) المصدر نفسه، ص 173.
(18) المصدر نفسه، ص 174.
(19) "بالفعل، تمثل الجذور الوجه المعاكس الكامل للأجزاء المرئية من النبتة، ففي حين ترتفع هذه بسموّ، تغوص تلك قبيحة ولزجة في باطن الأرض، عاشقة النتانة كما تعشق الأوراق النور. هناك ما يدعو للملاحظة وهو أن القيمة الأخلاقية التي لا جدال فيها لتعبير "أسفل" ملازمة للتفسير المنهجي لاتجاه الجذور: ما هو شر ممثّل بالضرورة في نظام الحركات بحركة تتجه من الأعلى نحو الأسفل. هذا الواقع يستحيل شرحه إذا لم ننسب دلالة أخلاقية للظواهر الطبيعية، التي منها تُستمد القيمة الأخلاقية، بسبب الطابع اللافت للظاهرة، لعامة حركات الطبيعة الحاسمة، المصدر نفسه، ص 177.
(20) المصدر نفسه، ص 85-86.
(21) لنذكر من هذا النص القصير المخصّص للمذهب المادي العبارتين، الأولى والاخيرة للمقارنة بينهما: معظم الماديين، ولو أرادوا إلغاء كل جوهر روحي، توصلوا إلى وصف نظام أشياء علاقاتها التراتبية تميزها باعتبارها مثالية، بنوع خاص... حان الوقت، عند استعمال كلمة مادية، للدلالة على التفسير المباشر الذي يلغي كل مثالية، لظواهر أولية، وليس على نظام مبني على عناصر مجتزأة من تحليل أيديولوجي مُعد تحت تأثير علاقات دينية"، المصدر نفسه، ص 178-179.
(22) وضع الماديون المادة الميتة في قمة تراتب اصطلاحي لوقائع من مستوى مختلف، من دون أن يدركوا أنهم بذلك قد خضعوا لهاجس شكل مثالي للمادة، شكل يقترب أكثر من أي شكل آخر، مما يجب أن تكون عليه المادة"، المصدر نفسه، ص 178.
(23) المصدر نفسه، ص 179. تؤكد ملاحظة مخطوطة من الفترة ذاتها معنى قريبا من هذا: "لا تعني المادية أبدا أن المادة هي الجوهر، إذ يكون ذلك بكل بساطة شكلا من أشكال الفلسفة المثالية في تطابق بين المادة والفكرة، وأن الإنسان يخضع فقط لشيء ما هو أدنى منه، أدنى من عقله –المادة التي هي أساس عقله، لكنها تخونه بطبيعتها بالذات التي لا تُختزل بهذا العقل انطلاقا من أنها لا تجد فوقها سلطة تثبتها كالله أو الفكرة"، المصدر نفسه، ص 650.
(24) انظر:  Michel Foucault, « Préface à la transgression » Critique, nos. 195-196 (aout-septembre 1963), p.756.
(25) انظر: Bataille, Ibid, vol. I : Premiers écrits, documents, p.179.
(26) المصدر نفسه، ص 288-289.
(27) المصدر نفسه، ص 212. هذه العبارة توجد في ملاحظة من لعب محزن (Jeu lugubre)، حيث نقرأ: "لمواجهة الوسائل غير الناجعة والذرائع والهذيانات التي تفضح العجز الشعري الكبير، ليس هناك سوى الغضب الشرس، بل نزعة حيوانية أكيدة: من المستحيل أن نتحرك بشكل يختلف عن خنزير وهو يلتهم قوته في المزبلة وفي الوحل وهو يقتلع كل شيء بخطمه حيث لا شيء يوقف شراهة مثيرة للاشمئزاز"، المصدر نفسه. كيف لا نسمع، في هذه الحشرجة المثيرة للتقزز، "صوت" خنزير القديس أنطونيوس، كما أنطقه فلوبير، وهو يتمرغ في الأوحال التي تجعلنا نفكر بمزبلة "لغة الأزهار' في الصيغة الأولة لـ "تجربة القديس أنطونيوس"؟
(28) انظر: La révolution surréaliste, no. 12 (décembre 1929), p.I.
(29) انظر: Bataille, Ibid, vol. I : Première écrit, documents, p.34
(30) انظر: La révolution surréaliste, no. 12 (décembre 1929), p.16
يعلن بونويل (L. Bunuel) في مذكراته أن بروتون (Breton) كان يحكم بأن باتاي "فظ ومادي بشكل مفرط"، انظر: Louis Brunel, Mon dernier soupir, ramsay poche cinéma ; 3 (Paris : Ramsay. 1986), p.148
(31) انظر: La révolution surréaliste, no. 12 (décembre 1929), p.16.
(32) انظر: Bataille, Œuvres complétes, vol. I : Première écrit, documents, pp.179-180
(33) انظر: La révolution surréaliste, no. 12, p.15.
(34) انظر: Bataille, Ibid, vol. I : Première écrit, documents, p.218
(35) انظر: Denis Hollier, « Le Matérialisme dualiste de G. Bataille » Tel quel, no. 25 (1966).
الأفكار ذاتها موسعة في: Hollier, La Prise de la Concorde : Essai sur Georges Bataille.
(36) "إذا واجهنا شيئا مفردا، فمن السهل أن نميز فيه المادة والصورة، وبإمكاننا إجراء تمييز مماثل في ما يتعلق بالكائنات العضوية، إذ تتخذ الصورة معنى وحدة الكائن ووجوه الفردي. ولكن إذا واجهنا مجمل الأشياء، فإن هذا النوع من التمييز الذي يُنقل إليها يصبح اعتباطيا، بل غير مفهوم. يتكوّن هكذا جوهران لفظيان، يفسّران فقط بمدلولهما البنائي في النظام الاجتماعي، الله المجرد (أو مجرد فكرة) ومادة مجردة، رئيس الحرس وجدران السجن. إن تنويعات هذا البناء الميتافيزيقي المرفوع ليس له أهمية أكثر من الأساليب المعمارية المختلفة. شُغلنا في معرفة ما إذا كان السجن ينبثق من الحارس أو الحارس من السجن: وإذا كانت لهذا الانشغال أهمية جوهرية، تاريخيا، يُخشى اليوم أن يثير دهشة متأخرة، على الأقل بسبب عدم التناسب بين نتائج النقاش وتفاهته الجوهرية"، انظر: Bataille, Ibid, vol. I : Première écrit, documents, p.220
(37) المصدر نفسه، ص 221.
(38) لنورد أيضا لباتاي هذه الملاحظة التي ترافق النص السابق: "بما أن عقيدة هيغل هي قبل كل شيء مذهب اختزال رائع وكامل، فمن البديهي أن نجد العناصر السفلى التي هي أساسية في الغنوصية، في حالة مختزلة وضعيفة. مع ذلك، عند هيغل يبقى دور هذه العناصر في الفكر دور الهدم، في حين أن الهدم معطى كعنصر ضروري لإنشاء الفكر الفكر. لذلك عندما أحللنا المادية الدياليكتيكية مكان المثالية الهيغلية (يقلب القيم قلبا كاملا، بإعطائنا المادة الدور الذي كان للفكر)، لم تكن المادة تجريدا. بل ينبوع تناقضات، من جهة أخرى لم يعد مطروحا طابع العناية للتناقض، الذي أصبح ببساطة، إحدى خصائص تطور الوقائع المادية" المصدر نفسه، ص 221. كما نرى، سنة 1930، كان باتاي يعلن انتماءه للمادية الديالكتيكية انتماء لا يقل عن انتماء بروتون: ولكن مفهومه للديالكتيك وقد أعيد، أو بالأحرى "حُفض" إلى أصوله الغنوصية، كان يختلف اختلافا تاما عن ذلك الذي كان يدعو إليه بروتون، الذي، وفق البرنامج الأساسي لما فوق- الواقع، كان، على عكس ذلك، محافظا على رؤيا ثابتة للارتفاع.
(39) انظر: Georges Bataille, « Du rapport entre le devin et le mal » dans bataille. Œuvre complètes, vol II, p. 198.
من بيترمان (S. Pétrement)، التي كانت، إلى ذلك كاتبة سيرة فاي (S. weil)، يمكن أن نقرأ أيضا: Simone Pétrement, Essai sur le dualisme chez platon, les gnostiques et les manichéens (Paris : PUF, 1947)
(40) انظر: :  Foucault, « Préface à la transgression ». p. 751.
(41) أحد مؤلفات باتاي الأخيرة هي: Georges bataille, La Peinture préhistorique : Lascaux, ou la naissance de l’art (Genève : Skira, 1955).
يمثل تمثيلا جيدا هذا المفهوم.
(42) انظر:  Bataille, Œuvre complètes, vol 2, note p. 419.
(43) انظر: Emile Durkheim, Les élémentaires de la vie religieuse ([s.l.]) : [s. n.], 1917).
(44) انظر:  Bataille, Ibid, vol. I : Première écrit, documents, pp. 224-225
(45) سيستعيد القسم الملعون (La Part maudite) موضوع المادة في تمددها، في إطار كون منفتح بما لا يُحدّ لدورات البنية العامة، وهو موضوع بواسطته سيجد باتاي معنى للتضحية الإنسانية. بهذا الخصوص، يمكن الرجوع إلى نص بالغ الأهمية، يقيم صلة بين كتابات 1930 وكتابات ما بعد الحرب: "المتاهة" (Le Labyrinthe)، مقال نشره باتاي سنة 1934 في المجلة التي كان يديرها كويريه في "معهد الدراسات العليا"، انظر أيضا: Georges Bataille, « La Critique philosophique » dans : Bataille, Œuvre complètes, vol I, p. 433
(46) انظر:Jean-Paul Sartre, « Un Nouveau mystique » Cahiers du sud (1943),
أعيد في كتاب: Jean-Paul Sartre, Situations I (Paris : Gallimard, 1947), p. 147
(47) انظر: Jean-Paul Sartre, Situations I, pp. 184-185

(*) معهد أسس سنة 1821 في باريس يخرّج اختصاصيين في علم الوثائق والمكتبات.
(**) عقيدة فلسفية- دينية تدّعي مصالحة جميع الأديان وإدراك الأسرار الكبرى بواسطة معرفة وجدانية باطنية تُنقل بالتقاليد، بعض مبادئها مستوحى من فلسفة أفلوطين.
(***) بالفرنسية (Clivage)، هو اتخاذ الأنا موقفَين تجاه الواقع الخارجي. كأن يأخذ أحدُ الموقفين الواقع بعين الاعتبار، بينما ينفي الموقف الآخر هذا الواقع. وهو مفهوم قديم عند علماء النفس والأطباء خصوصا فرويد (Freud).

المصدر: بيار ماشيري، بما يفكر الأدب؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية، ترجمة د. جوزيف شريم، مراجعة بسام بركة، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت حزيران (يونيو) 2009، ص 173-202

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق