ولد جورج باتاي
سنة 1897 من أب كفيف البصر؛ الأمر الذي سوف ينعكس في أعماله لاحقًا. أصدر أول كتاب
له في سن الحادية والعشرين. أصيب بداء السل فأُعفي من الخدمة العسكرية. وفي العام
1920 تعرف على سيلفيا، ولم يعمر زواجهما طويلاً. بعد سنتين مرّ بأزمات تصوف أوصلته
إلى الإقامة في دير الآباء البنيدكتيين في جزيرة وايت؛ آنذاك فكر جورج باتاي في
التحول إلى قسيس. وكان الكهنوت وعمى والده في أساس "حكاية العين " و"القسيس C. ". غير أنه، بعد هذه
الإقامة في الدير، صرف اهتمامه عن الإيمان.
في العام 1923 اكتشف أعمال نيتشه "أحسست
عند قراءته أنني لم أعد أملك ما أضيف" وسوف يظل معجبًا به دون أن يصير من
أتباعه. كذلك اقترب جورج باتاي من السورياليين من دون أن ينخرط في حركتهم. ثم أسس
مجلة "وثائق " Documentsوهاجم
فيها السورياليين معتبرًا " الثور [أندريه] بروتون ثوريًّا مزيَّفاً ذا وجه
يسوعي". وسرعان ما غادر مجلة "وثائق" وبدأ يساهم في مجلة "النقد
الإجتماعي" الناطقة باسم الحلقة الشيوعية الديمقراطية.
ومنذ العام 1932 تابع دروس كوجيف حول
هيغل. فكتب بالاشتراك مع ريمون كينو "نقد أسس الجدل الهيغلي". ونشر
مقالات في
مجلة "النقد الإجتماعي" حول هيغل والفاشية والتضحية، مستخدمًا مصطلحاته
الخاصة في سياق تحليل ماركسي. وما لبث أن انخرط في منظمة تروتسكية يشرف عليها
بوريس سوفارين مدير مجلة "النقد الإجتماعي".
وفي سنة 1934 عانى من توعكات صحية
أجبرته على ترك العمل وعايش خلالها "إشراقات" ترافقت مع اطلاعه على
اليوغا والزن، فوضع كتابين حول "التجربة الداخلية " و "طريقة
التأمل ".
وعندما عاد إلى التصالح المؤقت مع
بروتون سنة 1935 شاركه في تأسيس تجمع "هجوم مضاد" اتحاد نضال المثقفين
الثوريين، مع بول إيلوار وبنيامين بيريه وغيرهما. غير أن هذا الاتحاد لم يبق سوى
عام واحد إذ تفكك بسبب تناقضاته الداخلية. آنذاك نشر جورج باتاي " المتاهة" و"زرقة
السماء" كما أصدر "تضحيات" مع أندريه ماسون، ثم أسس مع روجيه كايوا
وميشال ليريس "معهد علم الإجتماع المقدس" من أجل دراسة الوجود الإجتماعي
بكل أشكاله وكشف مافيه من مقدّس (وهذا ما سوف نجده في كتابه "الإيروسية
") كذلك أسس مجلة "مقطوع الرأس" (Acéphale) التي
لم يصدر منها إلا ثلاثة أعداد وقد انبثقت عنها جمعية سرية عاشت حتى العام 1939
وكان هدفها "ارباك الإواليات الإجتماعية والحلم بممارسة التضحية"
وبالنظر إلى عدم تطوع أية ضحية فقد اكتفى أعضاء الجمعية بنحر...خروف!
سنة
1937 نشر جورج باتاي "مدام إدواردا " باسم مستعار هو بيار أنجيلا. ثم
عاوده مرض السل فغادر باريس إلى النورماندي، فإلى فيزيلاي التي أقام فيها حتى
العام 1949 وفي الأثناء نشر "التجربة الداخلية " وأعلن فيها: "لست
فيلسوفًا، أنا بالأحرى قديس ، بل مجنون." وكان رد فعل سارتر عنيفًا، فهاجمه
في " دفاتر الجنوب". وفي هذه الفترة تعاقبت كتب باتاي في الصدور:
المتهم، حول نيتشه(ويتضمن رده على سارتر)، إرادة الحظ، أورستيا إيبونين، نظرية
الدين، ...إلخ. وتزوج من ديانا بوآرني. ثم عاد في العام 1949 إلى العمل كأمين
مكتبة في كاربانتاس ثم في أورليان التي أقام فيها حتى موته. قبل ذلك وفي العام
1950 أصدر كتابه " القسيس C. " في طبعة نهائية وقدم
لكتاب المركيز دي ساد "جوستين أو بؤس الفضيلة"، "إن قراءة ساد، لمن
يريد الذهاب إلى أعمق ما يعنيه الانسان، لا يُنصح بها فقط، بل هي ضرورية "
وأصدر بعد ذلك مجموعة من الكتب: الأدب والشر، الإيروسية، رسوم ما قبل التاريخ،
دموع إيروس، المستحيل...وبعد موته في باريس سنة 1962 صدر له كتابان هما "
أمي" و"الميت ".
***
جورج
باتاي من أولئك الكتّاب الذين يصيبونك بالدوار عند قراءتهم. لتداعي الأفكار عنده،
أولوية على انسجامها أو تنظيمها. ونصه حركة دائبة من الإحالات االسريعة. إنه نص
متشظٍّ، يرفض المنظومة الفلسفية والنظام. يتقدّم، يغتني، ويكتنز، وقد يتّضح؛ لكنه
يبتعد عن نفسه أيضا: " أتكلّم ما يشبه لغةً ميتة. أعتقد أن هذه هي لغة
الفلسفة(...) لقد أردتُ استخدام لغة في درجة الصفر، لغة لاتعادل شيئًا، لغة تعود
إلى الصمت."
هذا
المنهج، أو منهج الإفلات من كل منهج، يتضح في كتابه "نظرية الدين" حيث يتحدث باتاي، في مقدمته، عن "فريسة" يطاردها المؤلف، هي "حركة
الفكر المفتوحة"
وعن سعيه إلى التعبير عن "فكر متحرّك" من دون أن يبحث له عن "صياغة
نهائية". فالفلسفة، في نظره، " ليست بيتًا أبدًا، بل هي ورشة". أما
"الحركة" فليست، في نهاية المطاف، سوى " غياب إجابة" و"عدم
اكتمال" و"صرخة مستحيل".
كان
مشروع باتاي الأساسي يتمثل في جمع المعلومات والبحث عن سبل للتوصل إلى تجربة خاصة؛
أطلق عليها عدة أسماء (التجربة الداخلية، الحالة التيوباتية، الوجد، التضحية...).
ومع أن هذه التجربة تتقاطع مع التجربة الصوفية، فهي تقطع معها الصلة أيضا: "أقصد
بالتجربة الداخلية ما يعرف عادة بالتجربة الصوفية: حالات الوجد والانخطاف...لكنني
لا أقصد التجربة المذهبية بقدر توجهي إلى تجربة عارية، متحررة من كل ارتباط(...)
وهذا ما يجعلني أرفض كلمة تصوف".
وما
يقرّب بين التجربتين يكمن في حركة الفكر
المتخلصة من المفهوم ومن الخطاب، وصولاً إلى نقطة اللامعرفة؛ إلى الظلمة التي
تتطلّب استنفاد القوى والخسارة المطلقة؛ خسارة الكائن الفرد وخسارة المعنى
والمعرفة. إن حالة العري التام والإسراف بلا تحفظ (أي بلا ربح) تؤدي إلى ما يطلق
عليه باتاي "السيادة"
إنها "تجربة تتولد عن اللامعرفة" وعلى
العكس من التجربة الصوفية
التي تؤدي فيها اللامعرفة إلى معرفة
أكبر"الإشراق النهائي"، لا تؤدي التجربة الداخلية
إلى أي منفذ. كما أنها، وعلى الرغم من محاذاة باتاي لنيتشة، لا تتوخى العودة
الأبدية، الدائرية.
في التجربة الصوفية يؤدي طريق اللامعرفة إلى ماوراءٍ ما، يقبع خلف الظلمة، إلى إشراق نهائي. أما عند باتاي فالطريق لا يؤدي إلا إلى الظلمات. والتجربة عنده، محايثة للكائن، ماثلة فيه دائمًا: إنها رحلة
إلى أقاصي إمكانياته وقدراته. وهي لاتتبع نسقًا خطّيًّا بل تشكل شرخًا داخل التطور
الخطي.
وإذا
كان "النفي" عند هيغل مولّدًا ومنتجًا فهو عند باتاي نفي
بلا وظيفة، بلا عمل، من أجل الخسارة الكاملة: استنفاد القوى والتضحية بها، أو كما
يقول ميشال فوكو عنها: " بدل البحث عن الكلية يتم التساؤل عن انتهاك الحدود،
وحركة الانتهاك تعوّض حركة التناقض." إنها تجربة القلق والتمزق التي تؤدي-
ويا للمفارقة!- إلى "الضحك" كمنفذ وحيد لليأس. أما بلوغ تخوم القلق فهو
يوصل إلى "سيادة الكائن". وهي سيادة لا تعني شمولية
الحواس أو السيطرة على العالم؛ ذلك أن سيادة الكائن هي رغبة في الضحك وتجاوز لما
هو جدلي: " السيادة هي القدرة على السموّ، ضمن اللامبالاة بالموت، إلى مافوق
القوانين التي تضمن المحافظة على الحياة." غير أنها سيادة ليست في المتناول.
ومع ذلك لابد من البحث عنها، هاربةً أبدًا " وليس مآلها إلا مملكة الفشل. "ولابد
من الانتهاك والخرق أيضا، و " ليس الانتهاك نفيًا للمحظور بل هو تجاوز
واستكمال له". والمحظور يستبعد العنف، لكنه يستدعي الانتهاك الذي يحرر ذلك
العنف.
إذا كانت المعرفة إكراهًا للمجهول كي
يصير معلومًا- وهذا مايتطلب "أرضية صلبة " يقف عليها كلاهما بتعبير
ديكارت، أو "حركة دائرية " للمعرفة كما في المنظومة الهيغلية- فإن باتاي يعتبر ذلك بهتانًا. فكيف نجعل المنظومة تحل
محل الحياة، وتسيطر على الانسان، وتوقف السؤال الدائم عن الحياة المتحركة؟ لذلك
يرى أن الفلسفة، وكذلك العلم، "كانا ومازالا تعبيرًا عن إخضاع الانسان".
فالتفكير الواضح يتخذ موضوعه من الممكن دائمًا. أما المستحيل، وعلى العكس من ذلك،
فهو فوضى وضلال.
غير أن الأمر عند باتاي يتعلق ببلوغ حدِّ ما لا يُحدّ؛
إخضاع ما يُفكَّر فيه إلى ما لا يُفكَّر فيه، إخضاع الممكن إلى المستحيل، أي
محاذاة الجنون.
كل هذا
لايعني التخلي عن الفلسفة، بل يتطلب رفض الانغلاق ضمن منظومة فلسفية. وهذا ما
يستدعي قلب الأولويات، وكشف ضعف الفلسفة في قوتها تحديدًا: فكما أنها تنطلق من
المجهول إلى المعلوم، يتوجب عليها أن تنقلب، عند بلوغ الذروة، لتعود إلى المجهول،
تمامًا كما يعود ضوء النهار فيتلاشى في أحشاء الليل من جديد.
وهكذا يقدم باتاي ما يسميه "التجربة الداخلية
" لمعارضة المنظومة المغلقة. أما الفلسفة والعلم فيظلان طريقًا ووسيلة للفكر
"حتى إذا تكلّمْتُ بلغة رجل العلم فهذا في الظاهر فقط...لأن العالِم يتكلم
انطلاقًا من الخارج كمن يشرّح دماغًا... أما انا فأتكلم من الداخل، كما يفعل رجل
اللاهوت". وفي هذا مثال آخر عن طريقة الانتهاك: انتهاك العلم والفلسفة،
وإدخال كلمات ومصطلحات غير فلسفية مثل الاقتصاد، والتصوف، والضحك، والجرح،
والصرخة، والإيروسية ( الغلمة، الشبق الجنسي، إلخ) ويبرر ذلك بالقول: "أعتقد
أن أعلى قمة في الفلسفة تلتقي مع ذروة الإيروسية " و "عندما تتحول
الفلسفة إلى انتهاك للفلسفة، تبلغ ذروة الكائن".
***
يندرج مفهوم السيادة
عند جورج باتاي ضمن مشروع كان يرغب في إقامته حول "الاقتصاد السياسي".
ولا يمكن فهم السيادة من دون إدراجها في التحليل الذي قام به باتاي للمجتمع
انطلاقًا من مصطلحي التجانس والتنافر. وقد ظهر ذلك في تحليله للمجتمع الماركسي
وكذلك الفاشي. إن التنافر(التغاير) الإجتماعي محكوم بهيمنة التجانس؛ غير أن هذا
التجانس لا يمكن أن يحصل إلا في صلة وثيقة بالقوى المغايرة. وعندما يجمع باتاي بين
ماركس ومارسيل ماوس وفرويد يقترب أكثر من جدلية الاقتصاد السياسي مع ان السيادة
عنده لاتدرس ضمن استخدام المفاهيم الجدلية وترفض فعل النفي الخلاّق وتتكئ على
الانتهاك الدائم.
يرى باتاي أن هناك
نزوعًا تجانسيًّا لدى المجتمع( ما يعادل "وسائل الإنتاج" في الماركسية)
يتأسس على استبعاد أي عنف ، وبالتالي على إقامة نظام والسهر على فرضه، واستبعاد
أية تضحية مجانية (في مقابل إقامة اقتصاد ربح وفائدة). وهكذا تبدو نزعة التجانس
بوصفها توافق الحد الأدنى الذي يلغي أي ابتعاد أواختلاف أو تفرّد، لصالح نظام(
انتاجي أو تقني أو خطابي) ملتحم ومتراص.
غير أن هذا التجانس
سرعان ما يتحول إلى امتياز لدى مجموعة محددة (طائفة، طبقة) أو للدولة التي تقوم
بمصادرته واحتكاره، مع ملكية وسائل الإنتاج والأرباح والفوائد والإشراف على حركة
التبادل. وهكذا لايعود التجانس شاملاً للجميع؛ إذ أنه انطلق عبر إقصاء بعض القوى
(العنيفة، المتفرّدة ) ثم ازداد قوة بزيادة ذلك الإقصاء؛ وخاصة اقصاء القوى
المغايرة الدائمة التي تمثل الجنون والفوضى والإفراط والإيروسية: العمّال (باعتبارهم
محرومين من وسائل الإنتاج وقد حوّلهم ذلك إلى قوة سلبية ومكمن رفض) والمجانين (باعتبارهم
يشكلون طعنًا في خطاب الاعتدال واللياقة) وكذلك الفاشيين (بوصفهم وكلاء فاعلين ضمن
قوى التنافر والتغاير، ويعيدون انتاج العنف البدائي المكبوت).
هذا القسم المستبعد
يؤكد، من خلال إقصائه، أنه محكوم دائمًا بالتجانس الإجتماعي(المهيمن). وبالمقابل
لا يمكن لنزعة التجانس أن تقوم وتدوم إلا من خلال علاقتها اللازمة بقوى التنافر.
لذلك يظل الانسجام قائمًا في "شكل هش " ولا يتمكن من ضمان بقائه إلا
بتكثيف نظامه الخاص ( اقتصاد الربح، والإكثار من الإقصاءات). أما مايشكل قوة تلك
القوى المتنافرة، أو تفوُّقها/سيادتها، حسب باتاي، فهو يكمن في كونها النقيض
المفرط واللاعقلاني الذي يتدخل في عملية التجانس الإجتماعي للنظام. وفي كونها ،
مقابل اقتصاد الإنتاج، تفرض الإنفاق والإفراط والفردانية والتضحية مهما كانت غير
مجدية.
هذا ما يحدث لمفهوم
السيادة عندما يجمع باتاي بين مؤثرات هيغلية وأخرى ماركسية. ذلك أن مفهوم السيادة
عنده يمكن إعادة نشأته أيضا إلى العام 1948، تاريخ صدور كتابه " نظرية الدين".
وفيه يظهر مدى تأثره بهيغل؛ إذ يربط باتاي مفهوم السيادة بـ "وعي الذات"
وبالكلية. وتنجم السيادة عندما تصطدم
الحميمية (عنف الفرد المنفلت الذي لم يعد منغلقًا في فردانيته، والذات التي
لم تعد ذاتًا منفصلة واندمجت في صفاء السماء الخاوي والهدير الفالت للنهر) بنظام الأشياء
(المشاريع، الذات المنغلقة، التقنية). وفي نظام الأشياء -حيث لا يتمتع العنف
المنفلت إلا بمكان سلبي– تتدخل السيادة
بوصفها خرقًا للقلق والموت وفوضى اللامعرفة، فتؤدي إلى وعي الذات، كنتيجة للمعرفة
التقنية (أي عالم الأشياء والعمل) كما تؤدي إلى الحميمية.
محمد علي اليوسفي
تونس في 29/9/2002
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
جورج باتاي، الأعمال الكاملة، منشورات غاليمار.
جان دورانسون: "جورج باتاي" ، غاليمار، سلسلة
أفكار، 1976.
آلان آرنو وجيزيل إكسكوفون-لافارج: " جورج باتاي"
، سلسلة كتّاب خالدون، منشورات سوي، 1978.
جاك شاتان: " جورج باتاي"، سيغيرس، سلسلة
شعراء معاصرون 1973.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق