الاثنين، 28 مارس 2016

سياسَات الجسَد: برنار نويل




برنار نويل

ﺗﺮﺟﻤﺔ: ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻨﻴﺲ

ﻫـﻞ يفترض هذا اﻟﻌﻨـﻮانُ أن أتعرّف ﻋﻠﻰ نفسي، ﻻ ﻓﻲ هاتين اﻟﻜﻠﻤتين، اﻟﻠتين ﻫﻤﺎ أيضاً تمثيليتان ﻟﺼﻠﺔ ﻗديمة بينهما ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ، ﺑـﻞ ﻟﻠﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺑﻂ ﺑﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺒﻴـﺮ بين اﻟﻮاﺣﺪة واﻷﺧﺮى؟ ﻳﺰﻋﺠﻨـﻲ ﻫـﺬا اﻟﺮﺑﻂ، ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺑﺴـﺒﺐ أﻧـﻪ ﻳﺘﻮﺟـﺐ إﺛﺒﺎﺗﻪ ﻗﺒﻞ ﺗﺄﻛﻴـﺪه، ﺛﻢ ﻣـﻦ ﺟﻬﺔ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻷﻧﻨﻲ ﻻ أﺗﻮﻓّﺮ ﻋﻠـﻰ ﺿﻤﺎﻧﺔ ﻷن أﺑﺘﻬﺞ ﺑﺎﻟﻮﺣﺪة اﻟﺘﻲ ﺗﻄﺎﺑﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ. ذﻟﻚ أﻧﻨﻲ ﻻ أﻋﺘﻘﺪ ﻓﻲ وﺣﺪة "أﻧﺎ"ي اﻟﺸـﺨﺼﻴﺔ، اﻟﺘﻲﻻ ﺗﻮﺟﺪ إﻻّ ﻓـﻲ اﻷﻓﻌﺎل التي تحققها، ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻋﺎﺑـﺮ. ﻓـ"أﻧـﺎ"ي ﺻـﻮرة ﺑﻼﻏﻴـﺔ ﻳﻌـﻮد اﻟﻔﻀﻞ ﻓـﻲ ﻣﻜﺎﻧﻬـﺎ إﻟﻰ اﻹﺻﺮار ﻋﻠﻰ اﺳـﺘﻌﻤﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﻟـﺪن اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺎدﻳﺔ. ﻛﻞ ﻓﺮد ﻳﻈﻦ أﻧﻪ "أﻧﺎ" ﻓﻴﻤﺎ ﻫﻮ وﺟﻮد "أﻧﺎ" ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺰام ﻋﺎﺑﺮ وﻋﻠﻰ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ  ﻧﻌﺎﻣﻠﻬﺎ ﺑﻬﺎ.
 إن اﻟﻔﺮدﻳﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، اﻟﺘﻲ ﻟﺪى ﻛﻞ واﺣﺪ ﻣﻨﺎ، ﻻ ﺗﺒﺪو ﻟـﻲ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻟﺘﺒﺮﻳﺮ اﻟـ"أﻧﺎ": ﻓﻤﻦ اﻟﺒﺪﻳﻬـﻲ أﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻘﺘﻀﻲ إﻟﻰ ﺣـﺪ ﻛﺒﻴﺮ ﺣﺘـﻰ أنْ ﺗﻜﻮنَ ﻣﻀﻤﻮﻧـﺔ ﺑﺄدﻧﻰ التزام يمكن أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴـﻪ اﻟﻮﻋﻲُ بالمكان اﻟﻌﻀﻮي والجسدي المُسمَّى "أﻧـﺎ". أﺿﻒْ إﻟـﻰ ذﻟﻚ أن ﺗﻘﺎﻟﻴﺪﻧﺎ المسيحية، وﻫﻲ ﺗﺴـﺘﻨﺪ إﻟﻰ «اﻟﺴـﺮ الخفي ﻟﻠﺘﺠﺴـﻴﺪ»، ﻟـﻢ ﺗﺘﻮﻗـﻒ ﻋـﻦ أنْ ﺗﺮﻓـﺾَ الممارسة ﻋﻠﻰ ﺣﺴـﺎب روﺣﺎﻧﻴـﺔ ﻏﻴـﺮ ﻣﺘﺠﺴـﺪة. واﻷﻓﻈـﻊُ ﻫـﻮ أن ﻋﺪم قابلية تجسيد اﻟـﺮوح ﻳﺆدي إﻟﻰ أن "أﻧﺎ" ﻛﻠﻤﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﻟﺪرﺟـﺔ أن ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ لا يُحيل إﻻّ ﻋﻠﻰ ﺗﺮددﻫﺎ ﻓﻲ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎل.
 وﺟﺪتُ ﻧﻔﺴـﻲ، وأﻧﺎ ﻣﺸـﺮفٌ ﻋﻠـﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻣﺮاﻫﻘﺘـﻲ وﺿﺪ ﺗﻴﺎر ﻫـﺬه الحالة المتعارف ﻋﻠﻴﻬـﺎ، مُجبَراً ﻋﻠﻰ ﺿـﺮورة أن أﻋﻮد إﻟﻰ الجسد -أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻓﻲ ﺟﺴـﺪ- ﻣﺎ دام اﻹﺣﺴـﺎسُ باللاتجسيد اﻟـﺬي دﻓﻌﺖْ إﻟﻴﻪ اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ والمعيارُ اﻟﻌﺎمﱡ ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻣﺤﺘﻤﻼً. ﻋﻨـﺪ ذاك أﺻﺒﺢ ﻫـﺬا اﻟﻮﻋﻲُ، ﻣﻦ ﻓـﺮط اﻟﺘﻜﺮار اﻟﻌﻨﻴـﺪ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ، ممارسة إرادﻳـﺔ ﻹدراك اﻷﺳـﺲ اﻟﻌﻀﻮية لجميع أﻧﺸـﻄﺘﻲ وﺑﺎﻷﺳـﺎس ﻟﻠﺘﻔﻜﻴـﺮ اﻟـﺬي ﻛﺎن ﻳﺴـﻌﻰ (وﻻ ﻳـﺰال) ﻷن ﻳﻘﺒـﺾَ ﻋﻠـﻰ اﻻﻧﺒﺜﺎق اﻟﺒﺎﻃﻨﻲ، ﻋﻠﻰ ﻋﺮَﻗﻪ المُضيء ﺷـﻴﺌﺎً ﻓﺸـﻴﺌﺎً. وﻫﺬه اﻟﺼﻴـﺮورة ﻻﺳـﺘﺮﺟﺎع الجسدي ﻋﺜﺮتْ ﻋﻠـﻰ ﺗﺄﻛﻴﺪﻫـﺎ، المفارق ﺑﻼ ﺷـﻚ، ﻓـﻲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ وﺑﻮاﺳـﻄﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑـﺔ، وﻫﺬه اﻷﺧﻴـﺮة أﻗﺮّتْ بما اﻧﻜﺸـﻒ. ﻓﻤﺎذا ﻛﺎﻧـﺖ ﺑﺎﻟﻀﺒـﻂ ﻃﺒﻴﻌـﺔ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﻓـﻲ ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﺴـﺘﺨﻠﺼﺎت الجسد**؟ ﻻ أﻋﺮف ﺷـﻴﺌﺎً ﺑﻌﺪ ستين ﺳـﻨﺔ، ﻏﻴﺮ أﻧﻨـﻲ ﻛﻨﺖُ آﻧﺬاك ﻋﻠـﻰ ﻗﻨﺎﻋﺔ ﺑﺄﻧﻨـﻲ ﺻﻮّرتُ الحالات الجسدية ﺗﺼﻮﻳـﺮاً ﺣﺮﻓﻴـﺎً ووﺿﻌﺖُ، ﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ، الجسدَ ﻓـﻲ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ وﻟﻴﺲ ﻣﺠـﺮدَ تمثيله. وﻣﻊ ذﻟـﻚ ﻓﺈﻧﻪ، ﺑﺪﻻً ﻣـﻦ اﻧﻔﺘﺎح ﻳﺆﻛـﺪُ اﻻﻧﻄﻼق، ﻛﺎن اﻟﺼﻤـﺖ. ﺻﻤﺖٌ ﻟﻌﺸـﺮ ﺳـﻨﻮات أﺿﺤﺖ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻓـﻲ ﻧﻬﺎﻳﺘﻬﺎ ﻧﺸـﺎﻃﻲ اﻟﻌـﺎديﱠ والجسدُ، ﻣـﻜﺎنُ ﻣﺮﺟﻌﻴـﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ، ﻓـﻲ ﻋﻼﻗﺔ ﻣُـﺮﺗﺎﺑﺔ ﻣﻌﻬﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺪوام.
 ﻻ ﺷـﻚ أن إرادة اﻟﺘﺠﺴﻴﺪ ﻇﻠﺖ ﺣﺎﺳـﻤﺔ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﻜﻦْ ﺗﺴﻤﺢُ ﻟـﻲ أن أﺟﻬﻞ أﺑـﺪاً، وأﻧـﺎ أﺻﺤﺢ ﻣﺮة ﺗﻠـﻮ أﺧﺮى ﻓﻲ الجسد ذاك اﻟﺬي ﻫﻮ ﺳـﺒﺒُﻪ ودﻋﺎﻣﺘﻪ، أﻧﻪ ﻟﻦ ﻳﻜﻮن أﻗﻞ ﺗﺒﺨﺮاً ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻧﻔﺴﻪ اﻟـﺬي ﻳﻨﺘﺠﻪ. إن الجسد ﻳﻨﺘﻬﻲ إذن ﺑﺄن ﻳﻜﻮن المكان المنسـﻲﱠ لما قـﺪ ﻻ ﻳﻜـﻮن، ﻣﻊ ذﻟـﻚ، ﺛﻤﺔ وﺟـﻮدٌ ﺑﺪوﻧـﻪ وﻻ ﺧﺎرﺟـﻪ، وﻳﺒﻌﺚُ، وﻫـﻮ ﻣﻮﺟﻮد، ﻋﻠﻰ ﻧﺴـﻴﺎﻧﻪ تحدﻳﺪاً. ﻓالجسدُ ﻫﻮ ﻣﺸـﻬﺪُ ﺟﻤﻴﻊ ﻣـﺎ أﻣﺜﻠـﻪ: ﻣﺸـﻬﺪٌ يمحوه اﻟﺘﺠﺴـﻴﺪُ ﺑﻘﺪر ﻣـﺎ ﻳﻨﻤﻮ، وﻫـﺎ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻻ أﺗﻮﻗـﻒ ﻋـﻦ اﻟﺘﻤـﺮد ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺤﻴـﺚ أن ﻛﻞ ﻣـﺎ ﻳﺤﻤﻞ، ﻓـﻲ ﻛﺘﺎﺑﺎﺗﻲ، اﺳـﻢَ الجسد، أﻋﻀﺎﺋﻪ وﻧﻌﻮﺗﻬﺎ ﻫﻲ ﺟـﺰء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺘﻤـﺮد: تمردٌ يائسٌ ﺿﺪ وﺿﻌﻴﺔ ﺗﺨﺘﺰل الجسدَ إﻟﻰ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻜﺎﻧﺎً ﺑﺪون ﻣﻜﺎن ﻟﺘﻤﺜﻴﻼﺗﻲ، بما في ذﻟك تمثيلاته.

ﺣﺎوﻟﺖُ ﻋﺒﺜـﺎً أن أرﺟﻊ اﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﺛﺎﻧﻴﺔ إﻟـﻰ إﻧﺘﺎج ﻋﺮَق ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﺻﻄﻨﺎﻋﻴـﺔ، إﻟﻰ ﻧﻀْﺢٍ ﻋﻀـﻮي، ذاك ﻻ يمنعه، بمجرد ﻣﺎ ﺗﺮﺗﻔﻊ ﺷﻌﺸـﻌﺘﻪ، ﻣﻦ أن ﻳﺤـﻮّل اﻟﻔﻀﺎء الحميم اﻟﺬي ﺗﻨﺒﺜـﻖ ﻓﻴﻪ إﻟﻰ ﻣـﻜﺎن ﺑـﺪون ﻣﻜﺎن. إذ بمجرد ﻣﺎ ﻳﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﻧﻔﺴـﻪ اﻟﻔﻜـﺮُ، الخيالُ أو ﺣﺘﻰ اﻟﺬاﻛـﺮة، ﻳﺘﺒﺨﺮ اﻟﻔﻀﺎءُ الجسديُّ ﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﺬﻫﻨﻲ. ﻟﻜﻦ أﻟﻴﺴـﺖْ ﺣﺮﻛﺔً ﻋﺒﺜﻴﺔً أن ﺗﺮﻏﺐ ﻣﺮاراً أﻳﻀـﺎً ﻓﻲ أن ﺗﻨﻌﺶ ﺣﻀﻮر «الجلد، اﻟﻠﺤﻢ، اﻷﻋﻀﺎء، اﻟﻈﻬﺮ، اﻟﻮﺟﻪ» ﺣﻮل المشهد اﻟﺬﻫﻨﻲ؟ ﺑﻠـﻰ، ﻧﻔﻜﺮ ﺑﻬـﺬا أﻳﻀﺎً، وإﻧﻪ لمن المفيد أن ﻧﻌﻲَ ﺑﺬﻟﻚ ﺛـﻢ... ﻳﺘﺒﺪّدُ ﻫﺬا اﻟﻮﻋﻲُ ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ!
 أﻻ ﻧـﺪركُ أن اﻟﺘﻔﻜﻴـﺮ ﻓﻌـﻞ؟ وﻳﻨﺒﺜـﻖ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻣـﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﻫﺬه اﻷﻋﻀﺎء ﻓﻲ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳُﺴـﻜﺘﻬﺎ، ﺑﻞ ويمحوها. ﺳـﻜﻮتٌ وﻣﺤﻮٌ ﻣﻦ المحتمل أنْ ﻳﻜﻮﻧَﺎ ﺿﻤﺎﻧﺔ لحُسن اﺷـﺘﻐﺎل اﻵﻟﺔ الجسدية: أﻻ يمكن ﺑﻌﻜﺲ ﻫﺬا أن ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻌﻄﻠﺔ ﺑﻮﻋﻲ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ؟ ﻓﻔﻲ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺈﻋﺎدة إﻧﺘﺎج ﺣﺎﻻت الجسد، ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺼَﻤَﺘﻪ، ﺗﺄﺳﺴﺖ ﻛﺘﺎﺑﺘﻲ ﺿﺪ اﻟﺬﻫﻨﻴﺔ، وﻓﻘﻂ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻓﻬﻤﺖُ أن ﻫﺬه "المستخلصات" ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻠﻰ اﻷﻗﻞ ﻋﺪّﻟﺖ اتجاهَها ﺑﻔﻌﻞ وﺿﻌﻴﺔ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ. ﻟﻜﻦْ أﻟﻴﺲ ﻣﻦ الممكن أﻻّ ﺗﻜﻮن اﻟﻌﻨﺎﺻﺮُ اﻟﻌﻀﻮﻳﺔ المجاورة ﻟﻠﻤﺸـﻬﺪ اﻟﺬﻫﻨﻲ ﻣﺸﺪّدة ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺴـﺒﺐ ﻋﻨﺎدي ﻓﻲ أنْ أﻇﻞّ واﻋﻴﺎً ﺑﺤﻀﻮرﻫﺎ. وﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ، ﻓﺈﻧﻨﻲ اﻗﺘﺒﺴﺖُ، ﻻﺣﻘﺎً، ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﺪﻳﻜﻮر اﻟﻌﻀﻮي ﻣﺮﺟﻌﻴﺎتِ ﻛﺘﺎﺑﺘﻲ أو، ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺣﻮال، ﺻُﻮَرَﻫﺎ.
ﻳﺒﺪو ﻟﻲ ﺑﻐﺘﺔ، والحالة ﻫﺬه، وﺑﺴﺒﺐ اﻟﺴﻴﺎق اﻟﺬي أﺣﺎول أن أﻋﻴﺪ ﻫﻨﺎ ﺑﻨﺎءه، أنّ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻴﺎر، اﻟﺬي تمّ اﻋﺘﺒﺎرُه ﻛﺸﻌﺮﻳﺔ، ﻫﻮ، ﺑﺎﻷﺣـﺮى، ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺳﻴﺎﺳـﻴﺔ. ﻓﺎﻟﺘﻤﺮﱡنُ ﻋﻠـﻰ اﻟﻮﻋﻲ بالحيوية اﻟﻌﻀﻮﻳـﺔ، ﻛﻤـﺎ ﻫـﻲ ﻣﻌﺮوﺿـﺔ، ﺧﻠﻒ ﺟﻤﻴـﻊ اﻷﻧﺸـﻄﺔ اﻟﺬﻫﻨﻴﺔ اﻟﺘـﻲ تحْجُبها ﻋﻨـﺎ، ﻟـﻪ ﻣﻔﻌـﻮلُ أن ﻳﻬﻴـﺊ ﻓﻴﻨـﺎ ﻣﻘﺎوﻣـﺔ لمختلف أﺷﻜﺎل اﺣﺘﻼل دﺧﻴﻠﺘﻨﺎ. ﻓﺎﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺗﻘﻴﻢ ﻓﻴﻨﺎ "أﻧﺎً" ﺳﻄﺤﻴﺔ ﺗﻜﺘﻔﻲ ﺑﺎﻷﻋﻤﺎل اﻟﻌﺎدﻳﺔ والمفتوحة ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺄﺛﻴﺮات اﻟﺒﺎرﻋﺔ ﻓﻲ اﻟﻐﻮاﻳﺔ، ﻓﻴﻤـﺎ ﻫﻲ "اﻷﻧﺎ" ﺗﻈـﻦ أﻧﻬﺎ ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻴﻬـﺎ. ﻛﺎنَ اﻟﺪﻳﻦُ ﻳﻠﻐﻲ تجْسيد "اﻷﻧﺎ" ﺑﺤﺠﺔ اﻟﺴـﻤﻮّ؛ ووﺳﺎﺋﻞُ اﻹﻋﻼم ﺗﺆﺛﺮ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ مماثلة ﻟﻜﻦ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ أﺟﻞ أن تجعل "اﻷﻧﺎ" رﻫﻦ إﺷـﺎرة رﺳـﺎﺋﻠﻬﺎ. ﻛﻞ ﺷـﻲء، ﻓـﻲ اﻟﻌﻤﻖ، ﻣﻌﻤـﻮلٌ ﺑﺄن ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻴﻨﺎ ﻧﻮعٌ ﻣـﻦ اﻻزدواج اﻟﺬي، ﻫﻮ، ﺑﺤُﺠّﺔ "اﻷﻧﺎ"، ﻣﺎ ﻳﺸـﻮش ﻋﻠﻴﻨﺎ. وﻳﺴْـﻬُﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻮّلُ اﻟﻴﻮمَ ﻷن اﻟﻮاﻗﻊ ﺗﺮك ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻟﺼُﻮَره وأنّ ﻫﺬه اﻟﺼﱡﻮَرَ ﺗُﺤﻴﻞ ﻋﻠﻰ اﻟﺪوام إﻟﻰ ﻓﻀـﺎءٍ أﻫْﺰلَ، ﻫﻮ اﻟﻔﻀـﺎء اﻟﺬي ﺗﺘﺤَﺮك ﻓﻴﻪ الحياة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ. هُزالٌ وﺳـﺮﻋﺔ أﻧﺸـﺂ عالماً ﻳُﺤﻴﻞ ﺳﻄﺤُﻪ اﻟﺸﻔﺎفُ ﻛﻞﱠ ﺷﻲء ﺑﺪوره إﻟـﻰ ﻣﺮﺋﻲ وﻣﺤﺎﻳﺪ. وﻳﺴـﻤﺢُ ﻫﺬا الحياد ﺑﺄن ﻳﻜـﻮن ﻛﻞﱡ ﻗﻮل وﻛﻞﱡ إﻇﻬـﺎر أﺣﺴـﻦَ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻹﺧﻔﺎء ﻛﻞ ﺷـﻲء، ﺑﻔﻀـﻞ اﻟﻼدﻻﻟﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﺮﺣﻬﺎ الحركة العالمية ﻟﻼﺳـﺘﻬﻼك. ﻓﺎﻷﺟﺴـﺎدُ اﺳﺘﺤﺎﻟﺖ اﻵن ﺑﺪورﻫـﺎ إﻟﻰ ﺻُـﻮَرٍ وﻗﺪ ﺗﺨﻠﺼﺖْ ﻣﻦ ﻋﻴـﻮب وأﺿﺮار اﻟﻠﺤﻢ. وﺗﻨﺠﺢُ وﺳـﺎﺋﻞُ اﻹﻋـﻼم ﻓﻲ ﻣﺎ أﺧﻔﻘـﺖْ ﻓﻲ تحقيقه اﻷدﻳﺎن: أيْ ﺧﻠﻖُ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﺜﺎﻟـﻲ ﻋﻠﻰ أﻛﻤﻞ وﺟﻪ، ﻳَﺪﻳﻦ ﻓﻴﻪ ﻟﻠﻔﺮاغ ﻣﺎ ﻛﺎن اﻟﻌﺎﻟﻢُ اﻟﺮوﺣﻲﱠ ﻳَﺪﻳﻦُ ﻓﻴﻪ ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ.
ﺳـﻴُﻌﺘﺒَـﺮ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺳـﺒﻖ ﻣﺒﺎﻟﻐﺎً ﻓﻴـﻪ، رﻏﻢ أنّ ﻣﺜـﻼً أﻋﻠﻰ ﻛﻬﺬا ﻻ ﻳﺴـﺘﻄﻴﻊ أن ﻳﺘﺤﻘﻖ دون أن ﻳﺘﺴﺒﺐ ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ الخسائر. ﻫﻜﺬا ﻓـﺈن اللاتجسيد اﻻﻗﺘﺼﺎدي، ﻣﺜﻼً، ﺑﺴـﺒﺐ أن ﻋﻬـﺪه ﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﺑﻌـﺪ اﻵنَ ﻗﺎﺑـﻼً ﻟﻠﺘﺮاﺟُﻊ، ﻳُــﺆذي ﻋﺪداً ﻫﺎﺋﻼً ﻣﻦ اﻷﺟﺴـﺎد ﺣﺘﻰ ﻻﻳﺴـﺘﺪﻋﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﻳﻘﻈﺔ ﻟﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ الجسدية، اﻟﺘﻲ ﺗﺪﺧﻞ ﻋﻨﺪ ذاك ﻓﻲ ﻣﻘﺎوﻣﺔ. إن الجسدَ المرهَق ﻳﺠﺴّـﺪ "أﻧﺎ"ه، اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺄﻟﻢ، ﺗﺘﻤﺮد وﺗﺼﺒـﺢ ﺳﻴﺎﺳـﻴﺔ. وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﺈن الجسد ﺧﻄﺮٌ ﻋﻠﻰ اﻻﺳـﺘﺒﺪاد اﻻﻗﺘﺼـﺎدي. ﺗﺄﻛﻴـﺪاً أن ﺳـﻠﻄﺘﻪ، ﻋﻠﻰ ﻏﺮار اﻷﻧـﻮاع اﻷﺧﺮى ﻣﻦ اﻻﺳـﺘﺒﺪاد، ﺗﻌْﻠـﻢ أن ﻋﻠﻴﻬـﺎ أن ﺗُﺨﻀﻊ ﻟﺘﺴـﻮد دون أن ﺗﺘﻘﺎﺳـﻢ اﻟﺜـﺮوات، وﻻ أﺣﺪَ ﻣﻦ أﻧﻮاع اﻻﺳـﺘﺒﺪاد ﻛﺎن ﻗﻂﱡ ﻣُﻄﺎﻟﺒﺎً ﺑﺘﻘﺴـﻴﻢ ﺟﻤﻴـﻊ اﻟﺜـﺮوات ﻣﺜﻞ اﻻﻗﺘﺼـﺎد، ﻟﻜﻦ اﻟﻌـﺪدَ اﻟﻬﺎﺋﻞَ ﻣﻦ اﻷﺟﺴـﺎد ﻫﻮ ﺑﺤـﺪّ ذاﺗﻪ ﻗﻮة ﻻ يمكن اﻟﺴـﻴﻄﺮة ﻋﻠﻴﻬﺎ. وﻷن ﻫـﺬا اﻟﻌﺪدَ ﻣﻦ اﻷﺟﺴـﺎد اﻟﺰاﺋﺪ ﻋﻦ الحدّ يمثل ﺗﻬﺪﻳﺪاً ﺧﻄﻴﺮاً، ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﺣﻼً ﻧﻬﺎﺋﻴﺎً: إذ أنّ اﻻﻗﺘﺼﺎد ﻳﺘﻮﻓﺮ ﻋﻠﻰ اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ، ﻟﻜﻨﻪ، ﻣﻦ دون ﺷﻚ، ﻻ ﻳﺠﺮّب ﺑﻌﺪُ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺿﺮوري ﻣﻨﻬﺎ. ﺣﺮب عالمية أو إﺑﺎدة ﺟﻤﺎﻋﻴﺔ: ﻳﻈﻞﱡ اﻻﺧﺘﻴﺎر ﻣﻔﺘﻮﺣﺎً.
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﻮن الحاضرُ ﺣﺎﺿﺮاً ﺣﻘﺎً ﻓﺈن ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻪ ﻳﻜﻮن ﻫﻮ اﻵﺧﺮ ﺣﺎﺿﺮاً ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﺳـﻘﺎط ﻣﻨﻄﻘﻲ ﻟﻠﻤﺤﺘﻤﻞ، اﻟﺬي ﻫﻮ تحذيرٌ ﻋﻠﻰ الخصوص. ﻳﺪرك الجسدُ اﻣﺘـﺪاداً أﻋﻠﻰ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻣـﻦ اﻟﻔﻀﺎء اﻟﺬي ﻳﺤﺘﻠـّﻪ ﻟﻜﻨـّﻪ ﺑﻄﺒﻴﻌـﺔ الحال ﻳﻨﻐﻠـﻖُ ﻋﻠﻰ ذاﺗـﻪ ﺣﺘﻰ ﻳُـﺪركَ ذاﺗﻪ ﺑﺬاﺗﻪ. ﻫﺬا اﻹدراك الموجّهُ ﻧﺤﻮ اﻟﺒﺎﻃﻦ ﻳﻈﻞ ﻋﺎﻣﺎً ﻣﺎدام ﻻﻳﺤﺎول أن ﻳﺤﺲ ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﻳُﺤﺲ ﻋﻀﻮٌ معين. وإذا ﺣﺎول اﻹدراكُ أن ﻳﺘﺼﻮر ﻓﻀﺎء ذﻫﻨﻴﺎً، ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻦ ﻳُﻘﺎﺑﻞَ إﻻ ﺗﺸﻮﺷـﺎً ﺷﺪﻳﺪ اﻻﺗﺴﺎع ﺣﺘﻰ ﻳﺒﺪو وﻛﺄﻧـّﻪ ﺑـﺪون ﺣﺪود. ﻟﻜﻦ ﻣـﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻟﻀﺒـﻂ اﻹدراكُ اﻟـﺬي ﻻ ﻳﻘﺪم ﺳـﻮى تمثيلٍ أﺳﺎﺳُﻪ اﻟﻬﻠﻮﺳـﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻫﻮ ﻳﺘﺠﻨﺐ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ اﻟﻠﻔﻈﻲ؟ ﻻ ﺗﺘﺄﺧﺮ ﻫﺬه اﻟﻬﻠﻮﺳﺔ ﻋﻦ أن تحْدُثَ ﻓﺠﺄة وﺗﻌﻤﻞَ ﻋﻠﻰ تحويل ﻛﻞ ﺷـﻲء لصالحها... فالجسد اﻟﺬي ﻳﺮاﻗﺐُ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺘﺨﻠﺺُ ﻣﻦ واﻗﻌﻪ الجسدي بمجرد ﻣﺎ ﻳﺸﺮع ﻓﻲ ﺗﺴﻤﻴﺔ ﻣﺮاﻗﺒﺘﻪ.
ﻟﻜﻨـﻪ ﻳﻌﺮﻓـﻪ وﻳﺘﺒـﻊُ ﺑﻮﻋْـﻲ، وﻫـﻮﻋـﺎرفٌ ﺑـﻪ، ﻛﻞﱠ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺮاﺣـﻞ اﻟﺼﻴـﺮورة اﻟﺘـﻲ تجرّه إﻟـﻰ ﺗﻜـﺮار وﺗﻜـﺮار ﺣﺮﻛـﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺴـﻴﺪ ﺗﺘﺤـﻮّل ﺳـﺮﻳﻌﺎً، بما ﻫـﻲ ﻓﻌـﻞُ وﻋْـﻲ أوّﻻً، إﻟـﻰ ﻓﻌﻞٍ ﺳﻴﺎﺳـﻲ. لماذا ﺳﻴﺎﺳـﻲ؟ ﻷﻧﻪ ﻋﺒّـﺮ ﻋـﻦ ﻣﻌﺎرﺿﺘـﻪ، ﻓﻴﻤﺎ ﻣﻀﻰ، ﻟﻠﺮوﺣﺎﻧﻴـﺔ المهيمنة، اﻟﺘـﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻔﺮض اﻟﺮﻗﺎﺑﺔ ﻋﻠﻰ الجسدي، وﻳُﻌﺒّـﺮ ﻋﻦ ﻣﻌﺎرﺿﺘﻪ، اﻟﻴﻮم، ﻟﺴـﻄﺤﻴﺔ وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻋﻼم المخطط ﻟﻬـﺎ، ﻛﻲ ﺗﺴـﻬّﻞ اﻟﺴـﻴﻄﺮة ﻋﻠـﻰ ﻋﻘـﻮل الجميع. ﻳﻮﺟﺪ الجسد، ﺑﺎﻟﻨﺴـﺒﺔ لجميع أﻧﻈﻤﺔ الحكم، ﻓﻲ ﺣﺎﻟـﺔ ﻣﻦ اﻟﺰﻳـﺎدة ﻋﻦ الحدّ ﻷﻧـﻪ ﻏﺮﻳـﺰي و، ﻏﺎﻟﺒﺎً، ﻣﺘﻤﺮد. وﻟﻢ تمنع أﻧﻈﻤﺔ الحكم ﻧﻔﺴَـﻬﺎ ﻣﻦ إﻏﻀﺎﺑﻪ ﻟﺘﺴـﺘﻌﺒﺪه، ﻟﻜﻦ أﻓﻀﻞَ وﺳـﻴﻠﺔ ﻻﺳﺘﻌﺒﺎده ﻫﻮ أن تحتلّ ﻣﺎ ﻳﺸـﻐﻠﻪ، ﺑﺪاﺧﻞ ﻧﻔﺴـﻪ، اﻟﺬي ﻫﻮ "روحُ"ـﻪ. ﻟﻢ ﺗﺘﻨﻮع ﺗﻘﻨﻴﺎتُ ﻫـﺬا اﻻﺣﺘـﻼل إﻻّ ﻗﻠﻴﻼً ﻋﻠـﻰ ﻣﺪى اﻟﻘـﺮون ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻧﺖ وﺳـﻴﻠﺘﻪُ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺪﻳﻦ. ﻓﺎﻟﻬﺪف ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺘﻐﻴّﺮ: إﺣﺪاثُ رﺿﺎً ﺑﺎﻟﻘﻤﻊ، اﻟـﺬي اﻧﺘﻬـﻰ ﺑﻌﺒﻮدﻳﺔ اﻷﻏﻠﺒﻴﺔ تجاه اﻷﻗﻠﻴﺔ المُهيْمنة. وﺗﺎرﻳﺦ ﻫـﺬه اﻟﻌﺒﻮدﻳـﺔ، المدهشة ﻓﻲ ﺣـﺪ ذاﺗﻬـﺎ ﻷن اﻷﻏﻠﺒﻴـﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻬﺎ اﻟﻘـﻮة، ﻳﺘﻄﻠﺐُ اﻟﺘﺪوﻳﻦ. ﺛﻤّﺔ ﻣﻘﺎوﻣﺔ أﺧﺬتْ ﻓـﻲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺗـﺘﻨَـﻈّﻢ اﺑﺘﺪاءً ﻣﻦ اﻟﺜﻠﺚ اﻷﺧﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳـﻊ ﻋﺸـﺮ، وﺳﺘﺴـﻔﺮ ﻋﻦ ﻣﻜﺘﺴـﺒﺎت اﺟﺘﻤﺎﻋﻴـﺔ ﻫﺎﺋﻠـﺔ. واﻟﻐﻄﺮﺳـﺔ المنتقمة اﻟﺘـﻲ تمّ ﺑﻬﺎ ﺗﻘﻮﻳﺾُ ﻫﺬه المكتسبات، ﻣﻨﺬ ﺑﻀﻊ ﺳـﻨﻮات ﺑﺎﺳـﻢ اﻹﺻﻼﺣﺎت اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳـﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﻴﻞ إﻧـﻪ ﻻ ﻣﻨﺪوﺣﺔ ﻋﻨﻬﺎ، ﺗﺜﺒـﺖ الحقدَ اﻟﻜﺎﻣﻞَ ﻟﻸﻗﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺸـﺒﺚ ﻧﻈـﺎمُ ﺣﻜﻤﻬﺎ الحالي ﺑﺎﻟﺘﺮاﻛﻢ اﻟﺮأﺳـﻤﺎﻟﻲ، أيْ ﺑﺎﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻰ اﻻﻗﺘﺼﺎد.
ﺣـﺎن اﻟﻮﻗـﺖ، ﻻ ﻟﻜـﻲْ أﻧﺎﻗـﺾَ ﻧﻔﺴـﻲ، ﺑـﻞ ﻷﺗﻜﻠـﻢَ ﺑﻮﺿـﻮح ﻋـﻦ اﻟﺘﻨﺎﻗـﺾ المؤسس -أو المبدع- اﻟـﺬي ﻳﺮى أن ﻗﻨـﺎة اﻟﻘﻤﻊ الموجودة ﻓﻴﻨـﺎ ﻫﻲ أﻳﻀـﺎً ﻗﻨﺎة اﻟﺘﺤـﺮّر. ﻓـ"اﻟﺮوح" ﻫـﻲ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ اﻟﺘـﻲ، ﻣـﻦ المحتمل ﺿـﺪ ﻧﻔﺴـﻬﺎ، ﺗﻮﻗـﻆُ ﻓﻴﻨـﺎ اﻟﻮﻋـﻲَ بمصدرها الجسدي و، ﺑﺎﻻرﺗـﻜﺎز ﻋﻠﻴﻬـﺎ، ﺗﻨﻤّـﻴﻬـﺎ ﻟﺘﻌﺘﺮض ﻋﻠـﻰ ﻫﻴﻤﻨﺘﻬﺎ ﻫﻲَ. ﻣﻦ ﻫﻨـﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﺎوبُ، وﻗﺪ تمت اﻹﺷـﺎرة ﻣﻦ ﻗﺒﻞ إﻟﻴﻪ، ﻟﻠﺘﺠﺴـﻴﺪ واللاتجسيد اﻟﺬي ﻫﻮ الممارسة المادية اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﺨﺘﺒﺮ اﻟﺪﺧﻴﻠﺔ ﻧﻔﺴـﻬﺎ ﻛﺎزدواج بين ﻗﺎﻋﺪﺗﻬﺎ اﻟﻌﻀﻮﻳﺔ (اﻟﺪاﺧﻞ اﻟﻌﻤﻴﻖ) واﻧﺪﻓﺎﻋﺔ اﻻﻧﻄﻼق المفكر (خارج الحميم). أﻋﺒّﺮ ﻋﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣُﻠﺨﱠﺼﺔ ﻷﻧﻨﻲ، إن اﺳـﺘﻄﻌﺖُ أن أﺗﺄﻣّﻞ ﺟﻤﻴﻊ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻐﻨﻰ اﻟﻮاﺿﺢ اﻟﺬي ﺗﻘﺪﻣﻪ رﺣﺎﺑﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻟﻬﺬا "الخارج"، ﻓﺈﻧﻨﻲ ﻻ أﻣﻠﻚ ﺳـﻮى إﺣﺴـﺎس ﻏﺎﻣﺾ ﺑﺎﻟﻐﻨﻰ اﻟﻐﺎﻣﺾ اﻟﺬي ﺗﺮاﻛﻢ ﻓﻲ ﻛﺜﺎﻓـﺔ "اﻟﺪاﺧﻞ اﻟﻌﻤﻴـﻖ". ﺗﺄﺗﻲ ﺻﻮرة، ﻫﻲ اﻟﺘـﻲ ﺗﺼﻮّر المقارنة بين اﻟﺰﻣﻦ ﺷـﺒﻪ اﻟﻼﻧﻬﺎﺋﻲ لما ﻗﺒﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﺰﻣﻦ، المحدود ﺟﺪاً ، ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ.
وﻻ ﺑـﺪّ ﻣﻦ ﺗﻮﺿﻴـﺢ أن ﻟـ"ﻗﻨﺎة" اﻟﻘﻤﻊ ﺣﻈﺎً ﻛﺒﻴـﺮاً ﻓﻲ ﻣﻘﺎوﻣﺔ ﻫـﺬه اﻷﺧﻴـﺮة إنْ ﻫـﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌـﺮفُ ﻛﻴﻒ ﺗـﺪرك ﻣـﺎ ﺑﺪاﺧﻠﻬﺎ وﻣﺎ ﺑﺪاﺧـﻞ الجسد. وأﺣﺴـﻦُ ﻃﺮﻳﻘـﺔ ﻟﻠﺪﺧﻮل ﻓـﻲ ﻫـﺬا اﻟﻮﻋﻲ ﻫﻲ، ﺑﻄﺒﻴﻌـﺔ الحال، اﻟﺘﻌﺮفُ ﻓﻲ "اﻟﺮوح" ﻋﻠﻰ إﻧﺘﺎج ﻟﻠﺠﺴـﺪ، ﺗﻌﺮّفٌ ﻳﺮﺗﻜـﺰ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺮﺑﻴـﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ. ﻓﻜﻴـﻒ ﻻ يمكن أن ﻧﻨـﺬﻫﻞ ﺑﺘﻘﺪم المكتسبات اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﺑﺘﺪاء ﻣﻦ المؤسسة المدرسية اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ [ﻓـﻲ ﻓﺮﻧﺴـﺎ] (ﺟﻮل ﻓﻴـﺮي) ﺣﺘﻰ ﺳـﻨﻮات 1980؟ ﺛـﻢ ﺑﺎﻟﺘﺪﻫﻮر الموازي ﻟﻬﺬه المكتسبات وﻟﻬـﺬه اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ؟ إن المدرسة اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﺘﻢ ﺗﺄﺳﻴﺴﻬﺎ، ﻛﻤﺎ ﻳُﻌﻠَﻦ، ﺑﺪاﻓﻊ الحرص ﻋﻠﻰ الديمقراطية، ﺑﻞ ﻷن اﻟﺼﻨﺎﻋـﺔ ﻛﺎﻧﺖ تحتاج إﻟﻰ ﻳﺪ ﻋﺎﻣﻠـﺔ ﻣﺆﻫﻠﺔ. وﻟﻢْ ﺗﻨﺪﺛﺮ ﻫﺬه الحاجة: ﻟﻘﺪْ ﺗﻘﻠﺼﺖ إﻟﻰ ﻧﺨﺒـﺔ ﺗﻌﻴﺪ اﻟﻄﺒﻘﺔ الحاكمة ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ إﻋﺎدة إﻧﺘﺎج ﻧﻔﺴـﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻫﻢ اﻟﻌﻤﺎل والمستخدمون ﻟﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﻣﻦ ﻓﺎﺋﺪة إﻻ إنْ ﻫﻢ ﻛﺎﻧﻮا قابلين ﻟﻠﻌﻤﻞ المرهق وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻷن ﻳﺤﺼﻠﻮا أﺟـﻮراً أدﻧـﻰ ممّا ﻳﺴـﺘﺤﻘﻮن. وﺗﺨﻔﻲ الخطابات ﻋـﻦ اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ المتساوية أﻛﺜـﺮ ﻓﺄﻛﺜـﺮ إرادة ﺗﺪﻣﻴﺮ ﻫـﺬا المصدر الخطير ﻟﻠﻮﻋﻲ واﻟﻔﻜﺮ ﺣﺘﻰ ﺗُﺴَـﻠّﻢ اﻟﺮؤوس إﻟﻰ وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻋﻼم اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺑﺄن ﺗﻀﻊ ﻓﻴﻬﺎ "ﻋﻘﻮﻻً ﺟﺎﻫﺰة".
وﻳﻌﻘـﺐ وﻓـﺮة المعاني، اﻟﺘـﻲ ﻛﺎﻧـﺖ اﻟﺘﺮﺑﻴـﺔ والمؤسسات اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴـﺔ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻧﺸـﺮﻫﺎ، ﺣﺮﻣﺎنٌ ﻣﻦَ المعنى، ﻣﻨﻈﻢٌ ﻣﻦ ﻟﺪُن اﻟﻨﻈﺎم الحاكم وﻣﻦ ﻟﺪن ﻋﺒﺎدة اﺳﺘﻬﻼكٍ، ﻳﺰدادُ ﺳﻄﺤﻴﺔ ﻳﻮﻣﺎً ﺑﻌﺪ ﻳﻮم، وﻳﺘﺤـﻮل ﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ إﻟﻰ ﻻﻣﻌﻨﻰ. ﻻ ﺣﺎﺟـﺔ، ﻣﻦ اﻵن ﻓﺼﺎﻋﺪاً، إﻟـﻰ ﻳـﺪ ﻋﺎﻣﻠﺔ: ﻓـﺮؤوس اﻟﻌﻤﻞ ﻛﺎﻓﻴـﺔ، ﺧﺎﺻﺔ إنْ ﻫـﻲ ﻗﺒﻠﺖْ ﺑﺄن ﻳﻜﻮن ﺗﻮﺟﻴﻬُﻬﺎ ﻣﻨﺼﺒّﺎً ﻋﻠـﻰ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻨﺎﻓﻊ وﺣﺪه. ﻛﻮﻧﻮا ﺑَﻠﻴﺪﻳﻦ ﻫﻮ اﻟﺸـﻌﺎر اﻟﺴـﺮّي، أيْ ﻛﻮﻧﻮا ﺑﻠﻴﺪﻳﻦ ﺑﺎﺳـﺘﻬﻼك وﻓﺮة اﻟﺼﻮر اﻟﺘـﻲ ﺗﺒﻌﺪﻛـﻢ، وﻫﻲ ﺗُﺼـﺐﱡ ﻓﻴﻜـﻢ، ﻋﻦ أﻧﻔﺴـﻜﻢ. ﻟﻴﺲ ﻟﻠﺴـﻠﻄﺔ ﻏﻴـﺮُ اﻹﺧﻀـﺎع. ﻛﺎﻧـﻮا ﻳﺤﺘﺎﺟﻮن ﻓﻴﻤﺎ ﻣﻀـﻰ ﻟﻠﻌﻤـﺎل، ﻟﻠﺠﻨﻮد، للموظفين، وﻫُﻢْ ﻟﻢ ﻳﻌﻮدوا ضروريين. ﻻ ﻳﻮدﱡ اﻟﻨﻈﺎمُ الحاكمُ، وﻗﺪ أﺻﺒﺢ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎً، أن ﻳُﻜﻮّن ﺳـﻮى مستهلِكين. والمستهلكُ المثالي ﺛﻘﺐٌ ﻻ ﻳﻌﻲ اﻟﺸـﺮط اﻟـﺬي ﻫﻮ ﺣﻴﻨﺎً، ﻳﻠﺘﻬﻢ اﻟﺴـﻠﻊ وﻳﻠﺘﻬﻢ، ﺣﻴﻨﺎً آﺧـﺮ، ﺑﺪﻳـﻼً ردﻳﺌﺎً ﻟﻺﻋﻼم. و، ﻓـﻲ ﻫﺬه اﻷﺛﻨﺎء، ﻳﺘـﺪرب المرتزقة المكلفون ﺑﺎﻟﻘﻤﻊ ﺣﺘﻰ ﻳﻜﻮﻧـﻮا ﺟﺎﻫﺰﻳﻦ ﻟﻠﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ يمكن أن ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻬﺎ تمرد.
الجسد ﻫـﻮ ﻛﻞﱡ ﻣـﺎ ﻳﺮﻛّﺒﻪ وﻫـﻮ وﺣﺪة ﻟﺘﻌـﺪﱡد اﻷﺟـﺰاء. وﻫﺬا المجموعُ ﺗﻀﻤﻨـﻪ ﺣﺮﻛـﺔ داﺧﻠﻴﺔ: ﺣﺮﻛـﺔ الحياة. ﻻ تحتاجُ هذه الحركة ﻻ إﻟـﻰ إرادﺗﻨـﺎ وﻻ إﻟـﻰ وﻋْﻴﻨـﺎ ﻟﻴﺸـﺘﻐﻞ اﻷﺳﺎﺳـﻲ: أيْ ﻧﺒﻀﺎتُ اﻟﻘﻠﺐ، اﻟﺘﻨﻔﺲُ، اﻟﺪورة اﻟﻌﺼﺒﻴﺔ أو اﻟﺪﻣﻮﻳﺔ، ﺑﻞ إنّ ﻫﺬا اﻟـﺬي ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻨﺎ أﺣﻴﺎءَ ﻳﻨﺘﻘﻞ إﻟﻰ داﺧﻠﻨـﺎ ﺑﻐﻴﺮ ﺗﺪﺧﻞ ﻣﻦ ﻃﺮﻓﻨﺎ. إنّ اﻟﻘﺎﻋـﺪة اﻟﻌﻀﻮﻳﺔ ﻟﺪﺧﻴﻠﺘﻨﺎ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻋﻨـﺎ. ﻓﻼ ﺑﺪ ﻣﻦ أنْ ﻧﺘﺪرّبَ ﻋﻠـﻰ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ اﻷﺳﺎﺳـﻲ، وﻫﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻼﻗﺘﺮاب ﻣﻦ إدراﻛﻨﺎ، مما ﻳﺆدي إﻟﻰ اﺣﺘﻤﺎل ﻣﻌﺎﻳﻨﺔ أنّ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ اﻟﺸـﺨﺼﻴﺔ ﺗﺨﺘﻔـﻲ، ﻓـﻲ اﻟﻠﺤﻈـﺔ ذاﺗﻬـﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺘـﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻫـﺬه المعاينة، ﻋﻤّﻦ ﻳﻌﻴﺸﻬﺎ.
اﺳﻢٌ ﻣُﻐْــﻔﻞٌ ﻏﺮﻳﺐٌ ﻟﻬﺬه الحياة اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺣﻴﺎﺗﻲ دون أن ﺗﻜﻮن ﺣﻴﺎﺗـﻲ ﻳﻔـﺮض ﻋﻨﺪﺋﺬ ﻧﻔﺴـﻪ و، ﻓﻴﻤـﺎ ﻳﺘﺪﻓﻖ إﺣﺴـﺎسٌ ﺑﺎﻧﺘﺰاع ﺟـﺬري، ﻫـﺎ ﻫـﻲ ذي ﻛﺘﻠـﺔ ﻋﻀﻮﻳﺔ -ﻫﻲ ﺟﺴـﺪي اﻟﺸـﺨﺼﻲ- ﺗﺼﺒﺢ ﻓﺮﻳﺪة وﻟﻬﺬا اﻟﺴـﺒﺐ ﺷـﺨﺼﻴﺔ. إﻧﻪ ﺗﻨﺎﻗـﺾٌ إﺿﺎﻓﻲﱞ بين ﻣـﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻨﻲ ﻛﺎﺋﻨﺎً ﺣﻴّﺎً، وﻣﺒـﺪؤه ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ، وبين اﻟﻔﺎﻧﻲ الحي اﻟﺬي ﻳﺼﻨﻊ ﻣﻨﻲ ﺟﺴﺪي. ﻟﻜﻦْ ﻫﻞ ﻫﺬا أﻛﺜﺮ ﺗﻨﺎﻗﻀﺎً ﻣﻦ أن ﺗَﺴﻜُﻦَ ﻓـﻲ ذاﺗﻲ، ﺑﻌـﺪ أن أُﻋْﻄﻴَﺖِ اﻟـﺮوحُ ﻣﻴﻼداً وﻋﻨﺎﻳﺔ، ﻫـﺬه «اﻟﺮوحُ» اﻟﺘـﻲ ﻻ ﺗﺘﻮﻗـﻒ ﻋـﻦ اللاتجسُّد؟ إن الجسد (ﺟﺴـﺪي) وﻫـﻮ ﻣﺸـﺪود بين هاتين القوتين، بين أن ﻳﺤـﺲّ ﺑﻐﺘﺔ ﻛﺜﺎﻓﺘﻪ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ (دﺧﻴﻠﺘـﻪ) ﻛﻤـﻜﺎن ﻟﺘﻮﺗـﺮ ﻳﻌﻄـﻲ اﻟﺘـﻮازن ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺘـﻲ ﻫﻲ ﻓﻲ ذاﺗﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﺷـﺨﺼﻴﺔ وبين اﻟﺬﻫﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻲ ذاﺗﻬﺎ ﺷـﺨﺼﻴﺔ. وﻫﺎ ﻛﻴﻒ ﻳﻔﺮض اليقينُ المزعجُ ﻓﻲ ﻫﺬه الحالة ﻧﻔﺴَـﻪ ﺑﺄﻧﻨﻲ أدﻳﻦ ﻟﻮﺟﻮدي لمنْ ﻟﺴـﺖُ أﻧﺎ، ﻓﻲ حين أﻧﻨـﻲ أﺻﺒﺢ ذاك اﻟﺬي ﻫﻮ أﻧﺎ ﻣﻦ -ﺧﻼل ﻫﺬا اﻟﻮﻋْﻲ.
ﻋﻼﻗـﺔ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀـﺔ وﺿﺮورﻳـﺔ ﺗﺪﻋُﻮ إﻟـﻰ أن ﺗﺴـﺮي ﻓﻲ لحمي ﺷـﻬﻮة اﻟﺘﻌﺒﻴﺮ: إﻧﻪ المعنى (الحركة) ﻗﺒﻞ أن أﺳـﺘﻄﻴﻊ إﻇﻬﺎر اﻟـﻣﻌﻨـﻰ وﻗﺪ ﺗـﻠﻔﻈﺘﻪُ اﻟﻜﻠﻤﺎت. إن اﻟﻔﻀـﺎء اﻟﺬﻫﻨﻲ ﻣﻮﺟّﻪٌ ﻋﻠﻰ ﻫﺬا اﻟﻨﺤـﻮ بالحياة اﻟﺘﻲ تمنحها ﻟﻪ اﻟـﺣﻴـﺎة، باتجاه اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺬي ﺳـﻴﺘﻔﻜّﺮﻫﺎ ﻓﻴﻤـﺎ ﻫﻮ ﻳﺴـﺘـﻘﻞ ﻓـﻲ ذاﺗﻪ ﻋﻨﻬﺎ. اﺳـﺘﻘﻼلٌ ﺳـﻴﺘﺄﻛﺪ ﺑﺨﻠﻖ ﻣﻮادﱠ ﻫﻲ أﺷـﻴﺎءُ ﻣﺤﺴﻮﺳـﺔ، ﻣﺼﻨﻮﻋﺔ ﺑﺪورﻫـﺎ ﻣﻦ ﻣﺎدة، ﺟﺴـﺪُﻫﺎ ﻣﻦ ﻟﻐﺔ (أو ﻣﻦ رﺳـﻢ، ﻣﻮﺳـﻴﻘﻰ، ﺣﺠﺮ...)، وﻣﻦ ذﻫﻨﻴﺔ ﻫـﻲ «روﺣـ»ﻫـﺎ. وﻫﺬه اﻷﺷـﻴﺎء المحسوسة تملك ﻛﺬﻟـﻚ ﻣﻈﻬﺮاً، ﻫﻮ ﺧﺎرﺟُﻬـﺎ، وﻣﻀﻤﻮﻧﺎً، ﻫﻮ داﺧﻠُﻬﺎ. إﻧﻬـﺎ إذن ﺗﺘﻮﻓﺮ ﻋﻠﻰ ﺣﺮﻛﺔ ﺑﺎﻃﻨﻴﺔ، ﺗﻨﺘﺸـﺮ، ﺑﻔﻌـﻞ تمرْئيها وﻣﻘﺮوﺋﻴﺘﻬﺎ، ﻓﻀـﺎءاً ﻣﺮﺋﻴﺎً وﻻ ﺣﺪود ﻟﻪ، ﻳﻌﺎدل اﻟـﺣﻴﺎة.
ﻳﺘﻘـﺪم اﻟﺘﻨﺎﻗـﺾُ الجديد بين ما ﻫﻮ، ﻓﻴﻨـﺎ، ﻻﻳﺘﺠﺴـﺪ، وﻫﻮ ذﻫﻨـﻲ، وبين اﻟﻘﺪرة ﻋﻠـﻰ اﻣﺘﻼك ذﻫﻨﻴـﺔ إﺑﺪاع «تجسدات» ﻓﻲ «أﺷـﻴﺎء ﻣﺤﺴﻮﺳـﺔ» ﻗﺎدرة ﻋﻠـﻰ أن ﺗﺮﺑﻂ ﻣﻌَﻨﺎ ﻋﻼﻗﺔ ﺟﺴـﺪﻳﺔ. واﻟﺘﺒﺎدل اﻟﺬي ﻳﺤْﺪُث ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﻨﻈﺮ ﻳﻘﻮدُ، ﻋﻨﺪ اﻟﺘﻤﺎسّ ﺑﻪ، إﻟﻰ ﻓﺘﺢ ﻓﻀﺎء ﺗﺘﺠﺎوب ﻓﻴﻪ دﺧﻴﻠﺔ اﻟﻘﺎرئ (أو المشاهد) ﻣﻊ اﻟﺪﺧﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ وُﺿﻌﺖ ﻓﻲ اﻟﺸﻲء الحسي- اﻟﻌﻤﻞ. وﻛﻠﻤﺎ اﺳﺘﻤﺮّ ﻫﺬا اﻟﻠﻘـﺎءُ ، وﻣﺠﻬـﻮدُ اﻟﻔﻬﻢ اﻟـﺬي ﻳَﺒْﻨـﻴﻪ، ﺣﺼﻞ ﺗﻘﺎﺳـﻢُ ﻗﻠﺐ المظهر ﺑﻔﻌـﻞ ﻧﻔـﺎذٍ ﻣﺘﺒﺎدَل. ﻟﻴﺴـﺖ ﻫﺬه ﺻـﻮرة وﻟﻜﻨﻬـﺎ ﻣﺤﺎوﻟﺔ وﺻﻒِ ﻋﻤﻠﻴـﺔٍ ﻣﺤﺴﻮﺳـﺔٍ ﻧﺎدراً ﻣـﺎ تمّ وﺻﻔﻬﺎ ﻛﻤـﺎ ﻫﻲ ﻓﻴﻤﺎ ﻫـﻮ إدراﻛﻬﺎ (إدراك ﺣﺠْﻤﻬـﺎ المادي) ﻳﻘـﺎومُ اﻟﺴـﻄﺤﻴﺔ اﻟﺘـﻲ ﺗﻘﻴﻤﻬـﺎ ﺳـﻠﻌﺔ اﻟﺼﻮر ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ اﻻﺳﺘﻬﻼك.
بمجرد ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻚ ﻣﺠﻬﻮدٌ ﺗﺪﺧﻞُ إﻟﻰ ﻣﻜﺎن ﻳﺘﻜﻮّن ﻓﻴﻪ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻓﺈﻧﻪ ﺑﺪﻻً ﻣﻦ أن ﺗﺴﺘﻬﻠﻚَ ﻫﺬا اﻟﺘﻤﺜﻴﻞَ ﻛﻔﺮﺟﺔ ﻣﻔﺼﻮﻟﺔ ﻋﻦ أﺻﻠﻬﺎ، تحْضرُ ﻛﺜﺎﻓﺔ ﻣﻀﻴﺌﺔ، تحيط ﺑﻚ وﺑﻌﺪ وﻗﺖ ﻗﺼﻴﺮ ﺗﺼﺒﺢ ﺟﺴﺪﻳﺔ. ﺛﻤﺔ الجسد و، ﻓﻴﻪ، اﻟﻼﻣﺮﺋﻲﱡ اﻟﺬي ﻳﺮﻓﺾ أن ﻳﺴﻠﻢ ﻣﻜﺎﻧﻪ ﻟﻠﺴﻠﻌﺔ اﻟﺒﺼﺮﻳﺔ. إن الجسد ﻣُﻌْـﺘﻢٌ: ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ اﻟﻮﺟﻪَ اﻟﺸﺎﺣﺐ والمثقوبَ اﻟﺬي ﺗﻐﻮر ﻓﻴﻪ اﻟﺼﻮر، إﻧﻪ ﻳﺘﻮﻓﺮ ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮٍ ﻳﻌﻜﺲ، ﻧﺤﻮ اﻟﺪاﺧﻞ اﻟﺬي يمسك ﺑﻔﻀﺎﺋﻪ، ﻧﺤﻮ ﻇﻞ ﻋﻤﻴـﻖ ﺗﻨﻔﺘﺢ ﻓﻴﻪ ﺑﺌﺮ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﻳﺼﻌﺪ اﻟﻜﻼم.
ﻧﻔﻬﻢ ﻋﻨـﺪ ذاك ﺑﻄﺮﻳﻘـﺔ ﺿﻤﻨﻴﺔ أن ﻣُﺴـﺘﻮدَﻋﺎً ﺣﻴﻮﻳّـﺎً ﻳﻨﺒﻌﺚ ﻣـﻦ ﺗﻨﻈﻴـﻢ اﻷﻋﻀـﺎء. وﻗـﺪ ﺣﺎوﻟـﺖُ ﻣـﻦ ﺟﻬـﺔ أﺧـﺮى أن أﻋﺒّـﺮ عن ﻃﺒﻴﻌﺘﻪ ﻋﻨﺪﻣـﺎ ﻛﺘﺒـﺖُ أن قوتين ﻓﻴﻨـﺎ ﻛﺎﻣﻨﺘـﻴْﻦ ﻟﻜﻨﻨﺎ ﻟﺴـﻨﺎ المستقبلين الخاصين ﻷيﱟ ﻣﻨﻬﻤﺎ. اﻷوﻟﻰ ﻫﻲ ﻗـﻮة اﻟﻨﻮع اﻟﺘﻲ ﻟﻨﺎ ﻣﻬﻤﺔ إﻋـﺎدة إﻧﺘﺎﺟﻬﺎ؛ واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، ﻗﻮة اﻟﻠﻐـﺔ، اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﺪورﻫﺎ ﻟﻨﺎ أﻳﻀﺎً ﻣﻬﻤّﺔ دواﻣﻬﺎ.
ﻋﻠﻴﻨﺎ أﻻ ﻧﻨﺴـﻰ أن اﻟﻨﻮع ﺳـﺎﺑﻖٌ بما ﻻ ﺣﺪّ ﻟـﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻠﻐﺔ وأﻧﻪ ﻳُﺨﻔـﻰ ﻣﻨﺒﻌﻬـﺎ ﻓـﻲ ﻋﻤﻘﻪ اﻟﻐﺎﻣـﺾ. وﺑﻘﺪر ﻣـﺎ أنّ ﻛﻞ يقين ﻣﻠﻐﻰ ﺑﻘـﺪر ﻣـﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ أنْ ﻧﺤﻠـﻢَ، وأن أﺣﻠﻢَ ﺑﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﻔﻀـﺎء اﻟﺬﻫﻨﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳـﻖ ﺻـﺐّ المرئي داﺧﻞ الجسد. وﻓـﻲ ﻧﻬﺎﻳﺔ المطاف، تجعلها ﻋﻴﻮﻧﻨـﺎ ﻧﺘـﻨﻔﺲُ اﻟﺮؤﻳﺔ ﻛﻤﺎ، ﻓﻲ ﻣـﺪار آﺧﺮ، ﻧﺘـﻨﻔﺲُ اﻟﻬﻮاء. ﻫﺬا اﻟﺘـﻨﻔﺲُ اﻟﺒﺼـﺮيﱡ ﻳﻀﻤﻦ ﺗﻮاﺻﻠﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺴـﻤﺢ أﻳﻀﺎً ﺑـﺄن ﻧﺤْﺼﺮَ ذﻫﻨﻴـﺘﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﻘﻨﺎة ﻧﻔﺴـﻬﺎ. ﻳﺘﺤـﺮك ﻓﻲ داﺧﻠﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺪوام ﺗﻨﺎﻗـﺾٌ ﻳُﻘﻮّﻳﻨﺎ ﺣﻴﻨﺎً و، ﺣﻴﻨـﺎً، ﻳُﻮﻫﻨﻨﺎ إنْ ﻧﺤﻦ ﻟﻢ نجعلْ ﻣﻨـﻪ ﺳـﻼﺣﺎً لمقاومتنا. ﻓﺄنْ تحسَّ وﺗﻌـﺮفَ، ﻫﺬان ﻫﻤﺎ أﺳـﺎسُ ﺳﻴﺎﺳﺔ.


الهوامش:
* نص التقديم الذي خص به برنار نويل الجزء الثاني من الأعمال الكاملة، الصادر بعنوان "انتهاك الكلمات" (L’Outrage aux mots) عن دار بول بباريس، في مارس 2011
** عنوان أول ديوان لبرنار نويل، صدر سنة 1956.
المصدر: جريدة القدس العربي اللندنية عدد 6849، بتاريخ 20 حزيران (يونيو) 2011، صفحة 10.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق