الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

مجسَّمات طقوسية عند الدوغون: ميشيل ليريس



ترجمة محمد العرابي


la mère des masques imina na

(Dogon, Mali, sanga, XIXe s.)

   تزدحم بلاد الدوغون بشكل عجيب بالمزارات، وبالأجسام الطقوسية، وبالأماكن المقدسة من كل نوع. وتخترق دماغ سكانها شبكة جد صارمة من الأساطير والمعتقدات، وحياتهم مرتبطة بشكل وثيق ومتواصل بنسيج من الشعائر، وهذا لكي يكون الملخَّص شاملاً، وليس مجرد تعداد ينزع لأن يكون شاملاً. عديد من المجسمات ذات الطبيعة السحرية أو الدينية مجمَّعة في "سانغا" أو نواحيها، سنقدم بعضها بإيجاز، أي تلك النموذجية بشكل خاص.



"أمهات الأقنعة"
   من بين المنحوتات الخشبية الكبيرة الأربع المجمَّعة، اثنتان تعدان من العينة القديمة؛ لقد تم جلبهما من مغارة تقع في قرية "إِ" (I)، المندثرة منذ زمن بعيد؛ شكلهما ممدَّد كغيرهما من الأشكال، إلا أنهما يختلفان عن الباقين على مستوى الجزء الذي يقوم مقام الرأس – نوع من الوجه المسطح يحمل حفرتين تجسدان العينين– بإحالتهما على فكرة رأس أفعى والجزء الذي يتوافق مع الذيل المصُمّم بطريقة تجعله يلوح كتجسيد إنساني غير متقن. وتعد الاثنتان عينة من المنحوتات الأربع الأكثر حداثة: الأولى التي يصل طولها إلى عشرة أمتار، تم العثور عليها في مغارة الأقنعة التابعة لقرية "غوغولي"، حيث كانت ممدَّدة على سرير من الجماجم الآدمية، جنباً إلى جنب أكبر جمجمة خشبية مصنوعة هي أيضاً؛ الثانية، التي يصل طولها إلى سبعة أمتار وستين سنتمتراً زينت في موضعين من طولها بزوج من التماثيل الصغيرة المؤنثة والمذكرة المنقوشة هي أيضاً من الخشب، تم استقدامها من مغارة الأقنعة التابعة لقرية إنِّيغيل العليا.
  وأكثر قداسة بكثير من الأقنعة، هذه المنحوتات الخشبية الكبيرة –التي تشترك في اسم "أمهات الأقنعة" أو "الأقنعة العظيمة" مع الآلات الموسيقية الهوائية (les bull- roarers)  التي تستعملها الزاوية (confrérie) والتي تعرفنا عليها حتى قبل أن نعرف بوجود "أمهات أقنعة" أخرى – لا يتم إخراجها إلا بشكل متكتِّم، وفي ظروف جد استثنائية، ولا يتم صنعها إلاّ كل ستين سنة، بمناسبة احتفالات السيغي (sigui)  [التي تتضمن استهلاكاً كبيراً للغذاء، وجلساتِ سكْر شعائرية من جعة الذرة البيضاء، وتنتقل من مجموعة من القرى إلى مجموعة من القرى التابعة للدوغون، وتقريباً من الشرق نحو الغرب، بعد أن تكون قد بدأت من قرية "يوغو"، من حيث تظهر في السماء، بحسب زعمهم، علامة كبيرة حمراء مبشِّرة].
وحين يحين دور مجموعة من القرى للاحتفال بالسيغي، ينحتون هذه المنحوتات الخشبية الكبيرة بواقع واحدة لكل قرية أو لكل قريتين متعاونتين، كما في حالة قرية "أوغول العليا" وقرية "أوغول السفلى". قبل أن يدخل إلى المغارة بضعة ذكور من الشبان –يصبحون من كبار المطلعين على الأسرار في المستقبل– حيث يمثل كل واحد منهم قرية بعينها، ويتوجب عليهم قضاء ثلاثة أشهر داخل مغارة الأقنعة ويصادف موعد خروجهم بداية الاحتفالات.
   وبعد نحتها كأقنعة من شجر القابوق، يتم تقطيع "أمهات الأقنعة" من طرف عشرات من الذكور الذين لم يقوموا بعد بطقس السيغي ( sigui)ويتم تركيبها –من طرف أولئك الذين قاموا بطقس السيغي- على شكل أقنعة تشبه "منزلاً بطوابق"، وهو نوع من العُلب المستطيلة المحفورة على شكل أخدودين عريضين عموديين وفي قعرهما يقع ثقبا العينين تفصل بينهما صفيحة ذات فتحات تمتد على عدة أمتار من الارتفاع. ومثل بعض الأقنعة ذات شكل "المنزل بطوابق"، كذلك "أمهات الأقنعة" تحمل في قمتها باقة من الأوتار تقوم "كقبعة"؛ ويتم تلوينها باللون الأحمر، وباللون الأبيض والأسود بنفس الطلاء الذي يستعمل لصباغة الأقنعة. بالمقابل عوض أن تكون ذات فتحات، فيتوجب عليها أن تتجهز بثقوب تتراوح بين واحد وثلاثة [الأول يقع على بعد ذراع من القمة، والأخريات ثقب في كل متر، كل منها تحت الآخر] وذلك كما يقولون، «حتى تمر الريح عبرها من دون أن تسقطها».
   أولئك الذين ينقشون الأخشاب الكبيرة يتم اختيارهم [وكذلك المكتشفون المستقبليون الكبار والبعض من صغار السن من نفس أعمارهم الذين سيرافقونهم طيلة مدة مكوثهم داخل المغارة، والذين يتخذونهم أسرى لديهم] من بين الأشخاص المسمون البورو بالفطرة (inné pourou) أو الأشخاص اللقطاء الذين، من غير أن يكونوا فئة معينة أو بدون أن يكون لهم من وضعية مستقلة ظاهرياً داخل عائلاتهم، يختلفون عن الأشخاص الآخرين في كونهم، إذا استثنينا بعض الطابوهات، يستطيعون مثلاً، أن يأكلوا الكلاب ويعاشروا النساء الموجودات في حالة حيض، ويكون لهم وحدهم الحق في معاشرة هؤلاء النسوة.
   من أجل نذر الخشب الكبير، يَذبح أحد البورو بالفطرة كلباً، وعلى كلَّابة صغيرة من الحديد، مغروزة في جبهة القناع، يراق الدم ويعلق عليه كبد الكلب، بعد سحقها مع الملح والفلفل. وهذا النذر الهدف منه تهدئة الجنِّيّ الذي كان يسكن الشجرة التي قطعت لغرض صنع "أم الأقنعة".
   بالنسبة لقبيلتي الأوغول، فتنجران خشب شجرة كبيرة ثم تحفظانها في مغارة معدة لهذا الغرض تقع شمال قبيلة الأوغول السفلى، قبالة القرية. وعشرة أيام قبل موسم السيغي، يقوم أكبر المطلعين المستقبليين على السر –وعددهم ثلاثة– ورهائنهم الثلاثة، بحمل المنحوتة الخشبية الكبيرة إلى مغارة أقنعة الأوغول السفلى؛ وحتى يوم الخروج، ينام الأولاد الستة حول الخشب الكبير.
   وفي اليوم الأول من احتفالات السيغي، وحوالي الساعة الرابعة عصراً، يتم نصب "أم الأقنعة" من طرف المطلعين المستقبليين الكبار على السر تحت شجرة باأوباب عملاقة، في المكان حيث يتم وضع عصي على شكل حرف "y"، ليتمكن هؤلاء الذين يقومون بطقوس السيغي من الجلوس عليها في جلسات سكْرهم الطقوسية؛ معصبين رؤوسهم بألياف حمراء حاشرين إياها تحت كومة من الأحجار. ولو مالت أم الأقنعة يتم تقويمها بواسطة فروع الشجرة. وكل مساء يأتي كبار السن ليتمددوا قرب المنحوتة الكبيرة. ويتناوبون على ذلك رافعين عقيرتهم بالغناء، وقارعين للأجراس.
   وفي اليوم الثاني، خلال الليل، يُدخل المطلعون الكبار على السر الخشبةَ الكبيرة داخل المغارة حيث تحفظ في العادة بشكل بدائي. ولا يتم إخراجها مطلقاً إلا حينما يموت أحد الذين قاموا بطقس السيغي. وخلال ليلة ما بعد الموت، وبعدما يكون البورو بالفطرة قد نفخوا في المزمار  (le bull-roarer)  حتى يعود النساء والأطفال إلى منازلهم، فيحملون المنحوتة الخشبية الكبيرة إلى دار الميت، وبدون أن يدخلوا فناء البيت، يميلونها تجاه السطح. ومن أعلى هذا الأخير، يربط أحد آباء الميت دجاجة حية في قمة "أم الأقنعة"، ثم يقومون بعدها بحمل المنحوتة لمغارتها وهناك يتم ذبح الدجاجة.
   وإذا كان الميت من بين أكبر المطلعين على السر، فإن المكتشفين الكبار الآخرين يحدثون ثقباً في السطح ويغرسون الخشبة الكبيرة في المنزل. وبذلك يتم ترك "أم الأقنعة" على هذا الحال ستة أيام، بارزة من السطح؛ وكل ليلة يأتي المكتشفون الكبار ليتكلموا بلغة سرية؛ وفي اليوم الأخير يقومون بذبح الدجاجة. ولتطهير المنزل المدنس بوجود الخشبة الكبيرة يجب على صاحب الدار أن يدور عليها بعشرين غوري (cauris)، بعدها يلقيها على مدخل خلية نمل.

   بازو  Bazou
هاتان الخشبتان المصنوعتان على شكل حيوان فاغر الفم ومسوَّد بالنار، تُجلب إحداهما من ميدان قريب من قرية أوغول، حيث تم غرسها، وثانيتهما من مغارة خاصة تقع قريباً من "دياميني"، وهي إحدى القرى التي تشكِّل مع "أوغول"، و"إنيغيل"، و"كوغولي" وقرى عديدة أخرى التجمع السكاني للسانغا (Sanga). هاتان الخشبتان المخصَّصتان لمغارة "دياميني" بواسطة تضحية الدجاج التي تتم كل سنة، بداية الموسم الجاف، يتم استعمالهما في مواجهة سارقي المحاصيل أو الأشجار المثمرة. إن كل من يتجرأ على السرقة رغم وجود البازو يتم سحقه، لأن البازو يصعد إلى السماء ويقذفه من هناك «بحجارة من رعد». ويمكن أيضاً إشهاره أيضاً في مواجهة كل من يسرق في السوق.
   إن المنحوتة المصنوعة على الشكل الإنساني [ذات الوجه الأنوثي؟] تأتي من مزار صغير يقع داخل مغارة البازو. قريباً من هذه المغارة، في الطريق إلى دياميني [المتخذ كمكان احتكار مجسمات البازو ومنه تزوَّد بها القرى الأخرى من مجمع السانغا] نجد مزاراً مخصصاً للضَّبْع، كطوطم مشترك للعائلات القاطنة بديامني؛ واجهة هذا المزار مطلية بالخربشات، الذي يصنعه الشيوخ من غليهم للذرة البيضاء أثناء تضحية سنوية للماعز وللدجاج والتي تمثل رموزاً جد متنوعة: قمر، شمس، نجوم، ثعبان كبير يحيط بالعالم، قوس صيد، أشجار، تماسيح، قناع له شكل "منزل بطابق"، قناع الكَناغا، قطعة من القطن  ذات مربعات منسَّقة، إلخ.

   ديغي Dégué
في كثير من المزارات الروحية للدوغون نعثر على مجسمات من الخشب على الشكل الإنساني، تسمى بالديغي.[...] وهي تستقبل –فضلاً عن التضحية السنوية للماعز وللدجاج–  في كل وقت من السنة جلود الحيوانات التي اصطادها الصيادون. هذه المنحوتة ترفع يديها إلى أعلى لكي تجعل، بحسب أحد المعلمين، «الأرض والسماء تتواصلان فيما بينهما».

المصدر: هذا النص نشر في مجلة مينوتور العدد 2 المخصص للمعرض داكار- دجيبوتي، سنة 1933 (منشورات سكيرا).  



النص الأصلي 











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق