الخميس، 17 ديسمبر 2015

الفن الزنجي يخرج من واجهاته الإثنية: غيّوم أبوللينير



ترجمة: منير السعيداني

العنوان الأصلي للمقال هو "Et l’Art nègre est sorti de ses vitrines ethniques" وهو للشاعر الفرنسي الطليعي والمجدد وليهام أبوليناريس دو كوسترويتزسكي المعروف باسم غيوم أبوللينير (Wilhelm Apollinaris de Kostrowitzky dit Guillaume Apolinaire) [1918-1880]. ظهر المقال أول مرة على صفحات عدد يوم 12/09/1912 من الجريدة الفرنسية "صحيفة باريس" (Paris-journal)، وبعد تركه فترة من الزمن أعادت "المجلة الأدبية" (La Magazine Littéraire) الفرنسية نشره سنة 1968 ثم على الصفحتين 30 و31 من عددها 16 خارج السلسلة الذي صدر مؤرخاً في فيفري-مارس 2009، بعنوان: الجمال (La beauté).
*****

Le Dieu Gou dieu de la Guerre
 Statue de fer DAHOMEY
يؤدي أصحاب المجموعات وذوو الفضول في فرنسا بحق دور العارفين، ذاك الذي يبدو أن الدستور قد أوكله إلى إدارة الفنون الجميلة. على هذا النحو شرع  بعض الهواة، شأن السيد (بول) غيوم(1) الذي يتوجب أن يحفظ اسمه كل من رغب في أن يكون على اطلاع على حوليات الغرائب، في التقاط المنحوتات وبصفة أعم كل الآثار الفنية التي تخص كل تلك الشعوب الافريقية والأقيانوسية(2) التي اتفق على تسميتها بالهمجية. إلى حدّ الآن، لم تكن تلك الأشياء تلتقط إلا استجابة إلى ما كانت توحي به من اهتمام أجناسي. واليوم، يلتقطها الهواة مبدين بعض الاهتمام الذي لم يولَ إلى حدّ الآن إلاّ إلى الآثار الفنية الخاصة بشعوب اليونان ومصر والهند والصين المسماة راقية. وعلى الرغم من ذلك فإن الدولة، وحتى الآن، لا ترى في مثل هذه المشغولات التي يعترف اليوم بجمالها عدد كبير من الأوروبيين إلا رقىً فظة وشواهدَ رعناء على تطير سخيف.
يكاد متحف التروكاديرو(3)، الذي يحوي عدداً كبيراً من روائع الفنانين الأفارقة والأقيانوسيين، يكون ضحية إهمال كامل تمارسه الإدارة التي إليها يتبع. وإذ لا يفتح إلا ثلاث مرات في الأسبوع فلا حراس له ويتولى النوبات حراس بلديون. وتمتزج المجموعات بحيث تلبي الفضول الإثني لا الشعور الجمالي. ومع ذلك، فثمة هناك بعض آثار فنية رفيعة الدرجة وعلى الأخص جوهرة تلك المجموعة الداهومية(4): منحوتة الحديد التي تمثل إله الحروب وهي من دون أي شكل أحد آثار الفن الأقل توقعاً وأحد أكثر الموجود منها بباريس رشاقة. قد تغنم مدرسة لا فلورا(5)، التي أسّسها الشاعر لوسيان رولمار ووضعت لها هدفاً رعاية "الفن الرشيق"، كسباً معتبراً من تأمل إله الحرب الداهومي. لقد أوحى الوجه الآدمي بهذا الأثر الفريد بكلّ تأكيد على أنه ما من واحد من العناصر التي تكونه، إبداعاً ظريفاً وعميقاً، مثل صفحة لـ رابلي(6)، يشبه تفصيلاً في جسد الإنسان. كان الفنان الزنجي بداهة مبدعاً. أنا أكيد أن هذا الإله الأخاذ لا يزار إلا يوم الأحد ولا يرتاده إلا الجنود في عطلتهم ومربيات الأطفال المتنزهات. ليست تعرف أيضاً تلك القبور الماورية(7) دقيقة الصنع التي يذكر تزويقها بالأصداف وبالنباتات البحرية ومنحوتات جزيرة الباك(8) النادرة التي يحتمل أن تكون كل ما بقي من حضارات الأتلانتيد(9) لما قبل التاريخ القديم والتي يملك متحف التروكاديرو نماذج عزيزة منها.
أما الإكثار من مجموعات الفن العجيب هذه فذاك ما لا تفكر فيه الدولة بتاتاً. وفي حين يقتني حفاظ المتاحف الألمانية ونظراؤهم في المتاحف الإنكليزية، وقد توفرت لديهم اعتمادات مالية هامة أينما كانوا، وحتى في فرنسا، كلّ ما تقع عليه أياديهم من المشغولات التي ندين بها لعبقرية الأفارقة والأستراليين العفوية، فلا توجد، حتى في التروكاديرو ذاته، مجموعة تثير الاهتمام من فن أصيلي أهالي مدغشقر بالغ التفرد. كذلك هو الأمر في ما يهم هذه الآثار الرهيفة التي ندين بها لحدادي أفريقيا الاستوائية. يبدو أنهم أهملوا تماماً. ومع ذلك فلا ينبغي أن نتغاضى عن الأمر: والاهتمام الذي يثيره الفن الزنجي ينمو كل يوم. إن رقية من أفريقيا الوسطى تدل على جمالية غير كبيرة البعد عن تلك التي كانت لقدماء سكان مصر. وحتى في الآثار الحديثة نكتشف ذلك الشعور الساحر بتلك التناسبات التي تعرفها قلة قليلة من الفنانين الأوربيين. يبدو أن الوقت قد حان لكي تعتني الدولة بهذا الوضع. الأسعار ترتفع كل يوم. ويتم السعي خاصة وراء آثار غينيا الفنية وتلك التي لجزر الماركيز(10)، كما يهتم السيد غيوم أيضاً لآثار فن شعوب آلاسكا. يُنظر الآن إلى الرقى التي كانت تباع لقاء لويسية(11) قبل خمس أو ست سنوات على أنها مشغولات يعز مثيلها ولا يتردد التجار أنفسهم في اقتنائها لقاء آلاف الفرنكات. لا يزال الوقت سانحاً بالنسبة إلى فرنسا، التي تكاد كل مستعمراتها ذات التنوع البالغ تتمتع بغزارة آثارها الفنية، لكي تنقذ باقي هذه الحضارات العجيبة. يستحق متحف التروكاديرو الأجناسي أن يُنمَّى، لا من الوجهة الأجناسية وحسب، بل وعلى الأخص من وجهة الفن. يتوجب أن يتوسع في مبناه بحيث لا تكدس التماثيل وآثار الفن الأخرى كيفما اتفق خلطها في الواجهات بين ماعون المنازل وسقط المتاع غير ذي الأهمية فنياً.

بل يمكن حتى أن يعمد إلى أكثر من ذلك حيث لا سبب يمنع من تأسيس متحف كبير للفن العجيب بحيث يكون لهذا الفن بمثابة ما هو عليه متحف اللوفر(12) بالنسبة إلى الفن الأوروبي. ينقل إليه بداية قسم فن الشرق الأقصى الموجود في اللوفر ثم توضع أيضاً مختلف آثار الفن التي تزين متحف التروكاديرو. وتكلف إدارات مختلف المستعمرات بالحرص على إثراء هذا المتحف الذي لن يبطئ تحوله إلى واحد من أكثر المعالم نفعاً للحضارة. عندها يمكن لمتحف التروكاديرو وقد رفع عنه ما يزره من الآثار الفنية أن يثري مجموعاته خالصة الأجناسية، ذلك أنه من المؤسف رؤية ما لحق المجموعات الموضوعية في القاعات المخصصة لمختلف المقاطعات الفرنسية من عدم المضي ولو قليلاً في إنهائها منذ يوم تركيزها. كان التجديد الوحيد، بل ووضع في أعلى سلم أيضاً، متأتياً من هبة وهو يمتثل في جمع أضياء بازار صغيرة منه مَشابكُ وخواتمُ مزيفة ومسبحات.. ولا تعرضُ في متحف التروكاديرو الأجناسي نماذج من الغليون، وخاصة غليون الطين، الذي لم يزل يحتفظ بتزويق فني. لا مزيد عن هذا. هذا الفراغ يسير ملؤه، ولا أشك البتة في استفادة المتحف من تبرع مصانع الغلايين الرئيسة التي تتصف بعض نماذجها بالطرافة أو بالفظاظة في عبقريتها، ويرسم بعضها الآخر وجوه عظماء بمزاود مليئة بالغلايين، بحيث تمتقع وجوه كل نوتيّي الصواري في مؤخرات المراكب.
إصلاح متحف التروكاديرو ملح. يتعين أن تُفصل عن الأجناسية الأشياء التي يكون طابعها الرئيس فنياً فتوضع في متحف آخر. أما المجموعات الأجناسية فسيكون من النافع تماماً تنميتها. وفي ما يهم فرنسا، يمكن لمتحف جديد أن يصير خزينة للعوائد والتقاليد القومية. يمكن لقاعة المقاطعات الفرنسية بالتروكاديرو أن تمثل قاعدة هذا المتحف. يمكن للتروكاديرو أيضاً أن يخصص كلياً لأجناسيات المستعمرات والخارج. كما يتوجب أن يزود بحراس وأن يفتح في ذات الأيام التي تفتح فيها المتاحف الأخرى: ها نحن بعيدون عن السيد غيوم وبقية جامعي الفن الزنجي. عددهم يزداد كل يوم.. الكثيرون من بينهم فنانون، وكنا قد أشرنا إلى الأثر الذي مارسته رقى الهمجيين في الفن المعاصر.


الهوامش:

1)    Paul Guillaume
2)    هي التسمية التي كانت تطلق حتى 1957 على  جزر المستعمرات الفرنسية الواقعة في المحيط الهادي. والصفة مشتقة من الاسم أقيانوسيا الذي سمت به الآداب والجغرافيات الأوروبية ثم الأمريكية ما شمل القارة الأسترالية والأرخبيلات.
3)    الاسم الأصلي للمتحف قصر شايو (Chaillot) الذي شيد في الدائرة السادسة عشرة من مدينة باريس ليحتضن المعرض العالمي لسنة 1937. وقد استخدم المهندسون المعماريون في بنائه هياكل قصر التروكاديرو القديم الذي كان شيد سنة 1878. ويتكون المتحف من أجزاء عديدة منها مسرح وخزينة للأفلام الفرنسية ومتاحف منها متحف المعالم الفرنسية ومتحف البحرية ومتحف الإنسان. والتروكاديرو اسم لمعركة عسكرية خيضت في 13/08/1832 إبان التدخل الفرنسي في إسبانيا.
4)    الداهومي هو الاسم القديم للبينين، الواقعة في إفريقيا.
5)    كانت المجلة الشهرية لا فلورا (1912-1914) تعلن أنها "مجلة الآداب والفن النبيل".
6)    فرانسوا رابلي (1494-1553) François Rabelais كاتب فرنسي تقلب بين الرهبنة والتجوال وممارسة الطب.. عرف بكتاباته التي حاولت أن تجمع بين الثقافة العالمة والتقليد الشعبي
7)    نسبة إلى الشعب الماوري أحد شعوب زيلاندا الجديدة في بولينيزيا. عرف بمقاومته للاستعمار البريطاني..
8)    من الجزر الأقيانوسية.
9)    جزيرة متخيلة في المحيط الأطلسي يعتقد أن البحر قد ابتلعها. أوحت منذ أفلاطون للعديد من الشعراء والكتاب والفلاسفة صوراً وأفكاراً وسرديات خيالية وشبه أسطورية.
10)    أرخبيل من الجزر الواقعة في بولينيزيا الفرنسية الواقعة جنوب المحيط الهادي.
11)     نسبة إلى الملك لويس، وهي ليرة فرنسية ذهبية كانت تساوي عشرين فرنكا
12)     متحف اللوفر عبارة عن قصر ملكي واقع في باريس على نهر السين. بدأ بناء القصر في ظلّ حكم فيليب أوغست (1180-1223) واستمر في ظل حكم شارل الخامس وفرانسوا الأول وكاترين دوميديسيس وهنري الرابع ولويس 13 و14 ونابليون الأول ولم يفرغ من تشييده إلا في ظل حكم نابليون الثالث (1852-1870). تحول إلى متحف في ما بين 1791 و1793 وهو يحوي آثاراً وتحفاً من حضارات الشرق القديم ومصر الفرعونية واليونان والرومان فضلاً عن اللوحات والمنحوتات والآثار الفنية.

المصدر: الفن الزنجي يخرج من واجهاته الإثنية، غيّوم أبوللينير، ترجمة منير السعيداني، مجلة كتابات معاصرة، العدد 75، بتاريخ كانون الثاني- شباط 2010، 97-98.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق