السبت، 21 مايو 2016

محاضرة حول بوشكين: فيودور دوستويفسكي



ترجمة لطفي السيد

إن مراسلات وأسفار ويوميات دوستويفسكي في سان بطرسبرج وبعض فصول من مسودات بعض رواياته كـ  الممسوسون" و"ذكريات من منزل الموتى" وخطبته عن بوشكين بمناسبة افتتاح النصب التذكاري لهذا الشاعر العظيم كانت قد ظهرت للنور أول ما ظهرت بعد ثورة 1917. وذلك بعد أن تم الإفراج عن العديد من الوثائق التي كان محظوراً نشرها في الفترة السابقة على الثورة وكذلك بعض أعمال كبار الكتاب الروس التي كانت قد حجبتها الرقابة ووضعتها في الأرشيف الروسي. بينما قام الأديب والمترجم جان فلاديمير بيانستوك في عام 1923 بالترجمة والتحقيق والتذييل ببعض الإيضاحات لهذه المراسلات والأسفار وباقي كتابات دوستويفسكي التي لم تكن قد ترجمت من قبل إلى اللغة الفرنسية.   



أُلقيت في 8 يونيو 1880 أمام جمعية أصدقاء الأدب الروسي

بوشكين ظاهرة استثنائية، وربما الظاهرة الفريدة للنفس الروسية، هكذا قال "جوجول". وأضيف، من جانبي، إنه عبقرية نبوية. لقد ظهر بوشكين بالضبط في لحظة يبدو أننا ندرك أنفسنا، ومجيئه ساهم بقوة في إضاءة طريقنا.
Portrait de Dostoïevski by Vassili Perov
الفعالية الفكرية لشاعرنا العظيم لها ثلاث مراحل. لا أتحدث، في هذه اللحظة، من خلال النقد الأدبي؛ لا أتحدث سوى عن نبوءاته لنا من خلال أعماله الأدبية. أعترف أن هذه المراحل الثلاث لم يكن بينها حدود فاصلة. فبداية رواية "أونيجين" تنتمي إلى الأولى ونهايتها تنتمي إلى المرحلة الثانية، بينما كان قد وجد نموذجه في أرض المنشأ. من المعتاد قول إن بوشكين، في بداياته حاكى الشعراء الأوروبيين: "بارني"، "أندريه شينييه"، ولا سيما "بايرون". بلا شك كان لشعراء أوروبا عظيم التأثير على تطور عبقريته، وهذا التأثير، حافظوا عليه حتى نهاية حياة بوشكين. إلاّ أن أشعار بوشكين الأولى حتى لم تكن مجرد محاكاة: لقد اخترقتها استقلالية عبقريته. لن نرى، أبداً، في أعماله مجرد محاكاة، مثل كثافة الألم هذه ولا الوعي العميق جداً بذاته. انظروا، على سبيل المثال، الغجر، القصيدة التي أضعها في المرحلة الأولى من فعاليته الإبداعية. لا أتحدث عن حماسته فحسب، التي ما كان لها أن تكون بمثل هذه القوة، إن لم تقم سوى بالمحاكاة في مثل هذا النوع من "الألكو" يكشف بالفعل بطل القصيدة عن فكرة قوية وعميقة، روسية بشكل بارز، والتي ستظهر لاحقاً مكتملة تماماً في "أونجين"، حيث نظن أننا نرى "ألكو" يظهر مجدداً، ليس في شكل مخيالي، بل في شكل واقعي، ملموس، واضح. في هذا النوع من "الألكو" وجد وميز بوشكين بخاتم عبقريته شخصيةَ المتسكع التعس، التائه في أرض المنشأ، هذا الشهيد الروسي، ولد قسراً من مجتمعنا المنفصل بقسوة عن الشعب. هذا ليس عن "بايرون" الذي قابله. هذا المتسكع الروسي بلا كوخ يلاحق اليوم طريدته ولن يختفي طويلاً. إذا لم ينضم للغجر ليجد مثاله عن الحياة البرية الهائمة والسكينة في حضن الطبيعة، يلقي بنفسه في الاشتراكية التي لم تكن موجودة بعد في عصر "الإلكو". يبحث دائماً، ليس فقط عن رضا غرائزه الشخصية، بل كذلك عن السعادة الكونية. يحتاج المتسكع الروسي للسعادة الكونية حتى يهدأ.
أوه! الغالبية العظمى من الروس لا يطالبون بالكثير من ذلك. الكثير منهم يسعد بأن يخدم بسكينة البلد كموظف حكومي، كمستخدم في خزانة الدولة، في السكك الحديد، أو موظف بنك، ولا يقلقهم أن يتكسبوا عيشهم بطريقة أو بأخرى. هذا كثير جداً لو أن بعضهم دفع بالليبرالية إلى "اشتراكية أوروبية" مبهمة، تخففها السذاجة الروسية؛ لكنها ليست إلا مسألة وقت. بغض النظر عن هذا الذي بمجرد أن يبدأ حتى يثير المتاعب، بينما ذلك يدق بالفعل جبهته في الباب! يكفي أن يُثار بعضهم حتى يقلق كل الآخرين. لا يعرف بعد "ألكو" التعبير بوضوح عن قلقه. كل ذلك في الحالة الغامضة عنده، ليس سوى الحنين إلى الطبيعة، أحقاد ضد المجتمع الراقي، الميول، بعض الشيء، الكوزموبوليتانية، دموع على الحقيقة التي ضاعت منا، التي لن نستطيع إيجادها. يوجد بداخله بعضاً من "جان جاك روسو". على أي شيء تستند هذه الحقيقة؟ هذا ما لم يقله لنا، لكن يعاني بصدق... الحقيقة في مكان آخر؟ في الأراضي الأوروبية التي لها شكل منظمة تاريخية، حياة اجتماعية محددة؟ لا يفهم أن الحقيقة بداخله؟ وكيف يدرك ذلك؟ إنه كغريب في وطنه. طابق العمل، ليست لديه ثقافة، ليست لديه سوى ذرات رماد متطايرة في الهواء. يشعر بذلك، يعاني منه. بلا شك ينتمي لطبقة النبلاء الوراثية، المالكة للأقنان على الأرجح. عرض ببراعة فانتازيا الحياة مع أناس لا يعرفون قانوناً، نزه الدب الذي يظهر... الطبيعة الرحيمة، المرأة، «المرأة البرية»، حسب تعبير أحد الشعراء، تستطيع أن تعيد له الأمل في العافية، بلا روية يتوله "بزيمفيرا" «هو ذاك، قال، حيث تكون عافيتي وربما سعادتي، هنا، في قلب الطبيعة، بين بشر ليس لديهم حضارة ولا قوانين!» لكن في بداياته في الحياة البربرية، لا يحتمل التجربة وتتلطخ يداه بالدم. يطرده الغجر، دون انتقام وبلا سخط، بصدق وروعة.

دعنا، أيها الرجل المتكبر. نحن برابرة. ليست لدينا قوانين. لا نمارس التعذيب ولا نعاقب. كل ذلك وبشكل طبيعي يحدث بشكل فانتازي تام؛ لكن وللمرة الأولى، نموذج «الإنسان المتكبر المتمدن»، بقدر ما هو متناقض مع الإنسان البربري، إلا أنه مفهوم بطريقة سليمة. ولقد تم تنصيبه عندنا للمرة الأولى من قبل بوشكين. وهذه حقيقة لنتذكرها. مجرد أن الرجل المتكبر المتمدن سيرى إهانة ما، سيضرب ويعاقب المسيء؛ متذكراً أنه ينتمي لواحدة «من طبقات النبلاء الأربع عشرة»، يطلق الصيحات العالية ويأسف على القانون الذي كان يعاقب هؤلاء الذين يمكنهم مضايقته. ويمكن أن نقول إن هذه القصيدة الرائعة ليست سوى عمل محاكٍ! قد يتعجلون هنا «الحل الروسي» للتساؤل اللعين.
«فلتتواضع، أيها الرجل المتكبر؛ يجب أن تهزم أولاً عجرفتك. فلتتواضع، أيها الرجل المتبطل، فلتعمل بأرض منشأك! هذا هو الحل طبقاً للشعب». الحقيقة ليست خارجك، إنها في ذاتك، فلتذعن ذاتك لذاتك؛ فلتستعد ذاتك ذاتك أنت وستعرف الحقيقة. إنها من توجد عبر مجهودك الخاص ضد المكتسبات الزائفة. إذا ما دحرت واستوليت ذات مرة على ذاتك، ستصبح حراً بشكل ما كنت تتخيل أبداً أنه يمكن أن يكون كذلك؛ سوف تضطلع بعمل عظيم بتجاوز نظرائك، ستصبح سعيداً لأن حياتك سوف تمتلئ بالفعل، وسوف تفهم أخيراً شعبك وحقيقته المقدسة. لن يكون التناغم العالمي عند الغجر ولا في أي مكان بالنسبة لك، إن لم تكن تستحقه؛ إن كنت شريرًا ومتكبرًا، إن أردت الحياة دون أن تبذل مجهودًا.
لقد طُرحت المشكلة على نحو رائع في قصيدة بوشكين. سوف تكون مبينة أيضًا بشكل أوضح ما يكون في "أوجين أونجوين"، قصيدة لم يعد بها أي شيء فانتازي، لكن بها واقعية واضحة، قصيدة بها الحياة الروسية الحقيقية مستدعاة بهذه البراعة، حيث لم يُكتب أي شيء بمثل هذه الحيوية قبل بوشكين، وربما ليس بعده.
تصل "أونجوين" من بطرسبرج، وبالفعل يجب أن تصل من بطرسبرج حتى تحصل القصيدة على مغزاها الكامل. إنه دائماً إلى حد ما "ألكو"، ولا سيما عندما يكتب، داخل القلق:
لماذا، كالمعاون تولا
 لا يقهرني العجز؟
ومع ذلك، في بداية القصيدة، يحافظ على قليل من التعجرف، يظل محبًّا للحياة الاجتماعية ويعيش الكثير من الوقت حتى يزول وهمه عن الحياة. لكنه بالفعل يبدأ في مخالطة «الشيطان النبيل للضجر المختفي». في قلب وطنه نفسه يشعر بالنفي. لا يعرف ما العمل: يشعر «كأنه مدعوه الخاص».
وبعد ذلك، عندما يستولي عليه القلق، يجول عبر وطنه، ثم في الخارج، يؤمن بذاته، بإنسان مخلص، غريب عنه جداً في بلاد الغرباء. بخصوص مسقط رأسه، يحبه، لكنه ليست لديه ثقة فيه. سمع الكلام عن المثال الروسي، لكنه لا يؤمن به. لا يؤمن إلا بالتعذر التام بتجربة أياً ما كان موجوداً على أرض بلاده؛ وهؤلاء الذين، هم أقل عدداً كاليوم، يحافظون على أملهم في الأرض الروسية، يستخف بهم بأسى. ببساطة قتل "لينسكي" بالكآبة، من يعرف؟ ربما بالحنين للمثال المحب للحياة الاجتماعية.
"تاتيانا" شخصية أخرى. «إنها المرأة التي تستوعب بكل عواطفها أرض المنشأ. إن لديها نفسا أكثر غوراً من نفس "أونجوين". فهي تلح، بغريزة نبيلة، على مكان الحقيقة، وتعبر عن فكرتها في هذا الموضوع في نهاية القصيدة. إنها نموذج إيجابي، ليس سلبيًّا، إنها النموذج المجيد للمرأة الروسية، وأراد الشاعر أن تكون هي من يظهر الفكرة الكلية للقصيدة في المشهد الشهير الذي يلي مقابلة تاتيانا مع أونجوين. من الممكن أن نقول إننا لم نعد نجد نموذجًا واحدًا بمثل هذا الجمال للمرأة الروسية في كل أدبنا، عدا "ليز" ربما في رواية "عش النبلاء" لـ "تورجينيف"...
... تمر مجهولة، في حياة "أونجوين"، وهذا هو الجانب التراجيدي في رواياته.
آه! لو أن في مقابلتهما الأولى الطفل "هارولد" أو لورد "بايرون" الذين أتيا من إنجلترا، ليجعلا "أونجوين" يدرك سحر "تاتيانا"، دون شك لم يكن "أونجوين" في حالة غبطة أمامها. لأنه يوجد عند هؤلاء الرحالة الموجعين شيئاً من الروح الخانعة. لكن لم يأت "بايرون"، والباحث عن تناغم الحياة الاجتماعية، بعد أن تفوه لـ "تاتينا" بعظة ما، سيرحل بصدق بقلقه الاجتماعي. يستمر في ترحاله، وبكل قوته وصحته، يصرخ مجدفاً.
أنا شاب؛ بداخلي الحياة هادرة،
وما لي أن أنتظر؟ الضجر، الضجر.
أدركت "تاتيانا" ذلك. في مقاطع خالدة، كان يعرضها الشاعر على الزائرة لمنزل هذا الرجل الغريب، الملغز أيضاً بالنسبة لها. لا أتحدث عن الجمال الفريد لهذه المقاطع من وجهة نظر أدبية. ها هي في قلب عمل "أونجوين"؛ تحاول أن تكشف اللغز، ثم تتوقف بابتسامة غريبة؛ تلح على الحقيقة وتقول بصوت خفيض:
ليس سوى محاكٍ باروديّ؟
نعم، كان يجب أن تظن ذلك وكشفته. فيما بعد، في بطرسبرج، عند اللقاء الجديد، ستعرفه كلية. في حينه، من أكد إذن أن حياة البلاط تستهدفها كالسم وأن أفكارها الجديدة الخاصة بالحياة الاجتماعية كانت، حتى درجة ما، من قضت لها بتأنيب "أونجوين"... لا، هذا خطأ! "تاتانيا" هي دائماً "تاتانيا"، "تاتانيا"، القروية. ليست فاسدة على الإطلاق. على العكس، إنها تعاني من هذه الحياة البطرسبرجية شديدة التألق؛ تكره دوره كامرأة راقية؛ هؤلاء الذين يحكمون عليها بشكل آخر، يقدرونها على نحو خاطئ، ولم يفهموا فكرة بوشكين. تقول بصرامة لـ "أونجوين": منحت نفسي لآخر. وسوف أظل مخلصة له للأبد. لقد عبّرت عن العاطفة الحقيقية للمرأة الروسية. لن أتحدث عن آرائها الدينية، عن أفكارها حول الزواج. لن أتماس مع ذلك. لو أنها رفضت أن ملازمة "أونجوين"، على الرغم من أنها قالت له: «أحبك» فليس كامرأة أوروبية، كأية فرنسية، لأنها تفتقد شجاعة أن تضحي بترفها، وثرائها... لا، المرأة الروسية شجاعة تلازم ذلك الذي تعتقد أنه يجب ملازمته. لكنها منحت نفسها لآخر وستظل مخلصة له للأبد».
... وماذا قد تكون السعادة التي قامت على تعاسة آخر؟ تخيلوا أنكم قد تجدون السر الذي يجعل كل البشر سعداء، لكن من أجل ذلك يكاد أن يسقط فرد واحد شهيداً، متقبلين أيضاً أنه ليس سوى كائن مثير للسخرية إلى حد ما، دون أي شيئ شكسبيري، عجوز، زوج، أسترضون لأنفسكم أن تصنعوا، بأي ثمن، سعادة الإنسانية؟
أتعتقدون، فضلاً عن ذلك، أن هؤلاء الذين تودون إسعادهم بمعاناة كائن وحيد سيرضون أن يقبلوا مثل هذه السعادة؟ قولوا، "تاتانيا"، أيمكنها أن تأخذ قراراً آخر غير الذي اتخذته، هي بروحها السامية بهذا القدر، هي التي تعرض قلبها لهذا الاختبار الصعب جداً؟ ستقرر روح روسية حقيقية مثلها: «أفضل أن أكون كائناً وحيداً محروماً من السعادة على أن أتسبب في تعاسة كائن بشري واحد؛ أود ألا يعرف أحد تضحيتي، لكني أرفض أي بهجة تحزن مخلوقاً آخر». إذن سيصبح "أونجوين" تعساً؟ المسألة هنا مختلفة. أعتقد أن حتى الأرملة، "تاتيانا"، لم تكن لتتزوج "أونجوين". كانت تعرف أن "أونجوين" وهو يرى مرة أخرى، في وسط متألق، المرأةَ التي كانت قد رفضته سابقاً، قد يـتأثر بالترف يزينها ويحوطها. العالم يعشق هذه الصبية التي يحتقرها تقريبًا. العالم، هذه السلطة الحاكمة بالنسبة لـ "أونجوين"!
«ها هو مثالي، يصيح، غايتي، نهاية كروبي! وأنا خسرت كلّ هذا! والسعادة كانت قريبة جداً، ممكنة جداً! وكما فعل "ألك"و من قبل تجاه "زامفيرا"، ينطلق نحو "تاتيانا"، باحثاً عبر الرضا بهذه الفانتازيا الجديدة عن الحل لكل شكوكه. لكن ألم تكشفه "تاتيانا" منذ أمد بعيد؟ في الحقيقة تعرف أنه لا يحب المرأة التي تكونها في الواقع، لكن هذه التي تبدو أن تكون. هل هو قادر أيضًا على أن يحبها أياًّ ما كانت؟ لو تبعته، سرعان ما سيصاب بخيبة أمل، وفي اليوم التالي سيسخر من حماسة الليلة السابقة. ليس لديه جوهر. إنه شفرة عشب تحملها الريح حيث تريد. "تاتيانا" ذات طبيعة مختلفة تمامًا. عندما تعي أن سعادة حياتها كلها ضاعت، تستند أيضًا على ذكريات طفولتها، حياتها الوديعة والقروية. ذكرياتها الماضية تكون بالنسبة لها الآن أغلى من أي شيء، لم يبق لها سوى ذلك، بل ذلك هو ما سينقذها من اليأس الكامل. له، "أونجوين"، ماذا يتبقى له؟ لا تستطيع أن تتبعه إذن لمجرد الشفقة، لتعطيه ما ليس سوى مظهر للسعادة؟ لا ثمة نفوس قوية قد تخون حتى بسبب الشفقة. لا تستطيع "تاتيانا" تتبع "أونجوين".
في هذه القصيدة ظهر بوشكين كأعظم شاعر شعبي، أعظم من كل هؤلاء الذين سبقوه أو لحقوه. بإظهاره لنا هذا النموذج للمتسكع الروسي، كشف كأنه نبي أهميته العظيمة لمصيرنا المستقبلي واستطاع أن يضع جانب هذا الأونجوين الشخصية الأجمل للمرأة الروسية في كل أدبنا. علاوة على ذلك، هو أول من طرح علينا كل سلسلة النماذج الروسية الجميلة والحقيقية، التي اكتشفها في شعبنا. سأنبه مرة أخرى أيضًا إنني لا أتحدث في شكل نقد أدبي وإنه لذلك لم أترك نفسي لبحث أكثر إسهاباً عن أعماله العبقرية. نستطيع أن نكتب كتابًا كاملاً فقط على نموذج الراهب المؤرخ، من أجل توضيح أي مغزى من هذه الشخصة الروسية الجليلة والتي رسمها بوشكين على نحو رائع، ليشعرنا بكل الجمال الروحي لهذه الشخصية. هذا النموذج موجود: ليس مجرد صورة عن النموذج الكامل للشاعر. وروح الشاعر الذي أنجبه موجودة أيضاً، والقوة الحيوية لهذه الروح هائلة الحجم. في كل أعمال بوشكين سوف تجد إيمانه بالنفس الروسية يتفجر.
«على أمل المجد والخير أنظر أمامي دون خوف» وهذا ما قاله أيضًا، ويمكن أن تطبق كل هذه الأقوال على كل نشاطه الإبداعي القومي. لم يستطع أي كاتب روسي آخر أن يكتسب قليلاً من مثل هذه الرابطة مع الشعب. بالتأكيد هناك مُقَدِّرون رائعون لشعبنا من بين كتابنا؛ لكننا إذا ما قارناهم بـ بوشكين باستثناء واحد أو اثنين من خلفه الأكثر مناورة، فلن نجد سوى "السادة" الذين يكتبون عن الشعب. بالنسبة لأولئك منهم من يمتلك موهبة رفيعة، وأيضاً بالنسبة للاثنين اللذين تحدثت عنهما للتو، فجأة يخترق بعض من الغطرسة نية أن يظهروا جيداً أنهم تواضعوا ليرفعوا الشعب إلى مستوى ذواتهم. عند بوشكين ثمة ألف حقيقية مع الشعب، نوع من الرقة إزاء الشعب، صراحة وبساطة واقعية. أتتذكرون أسطورة الدب والفلاح الذي قتل أنثى الدب؟ انظروا هذ الأبيات:
إيفان عرابنا،
وعندما نشرع في الشراب...
وتدركون ما أود قوله.
كل هذه الكنوز الفنية كانت كبعر الخنزير البري بالنسبة لتعليم فناني المستقبل. يمكن أن نقول بشكل إيجابي إذا لم يكن هناك بوشكين فلن تظهر المواهب التي تلته. على الأقل، ما كانوا ليستطيعوا أن يظهروا بمثل هذه القوة والوضوح. والأمر لا يخص الشعر فقط. فبدونه لم يكن إيماننا باستقلال العبقرية الروسية ليجد شكلاً ليعبر عن نفسه. نفهم بشكل خاص بوشكين عندما يتعمق المرء فيما سأطلق عليه الفترة الثالثة من نشاطه الفني.
أكرّر ذلك مرة أخرى، هذه المراحل ليست متعينة الحدود بشكل واضح تمامًا. بعض أعمال المرحلة الثالثة يمكن أن تورد في إنتاج المرحلة الأولى، لأن بوشكين كان دائمًا كائناً عضوياً كاملاً، من البداية، حمل بداخله بذور الموهبة. فالحياة الخارجية لم تقم إلا بإيقاظ ما كان في داخله موجوداً بالفعل بأعماق كينونته. لكن هذا الكائن العضوي كان يتطور، ومن الصعب أن نفصل بالفعل إحدى مراحل تطوره. نستطيع، بطريقة عامة، أن ننسب للمرحلة الثالثة هذه السلسلة من الأعمال التي تخترق فيها نفسه بشكل خاص النفس البشرية العالمية. وبعض هذه الأعمال لم تظهر إلا بعد وفاته.
لقد وجد في الأدب الأوروبي "شكسبير"، "سيرفانتس"، "شيلر". لكن أي من هذه العبقريات كانت لديه ملكة التعاطف العالمي التي لدى بوشكين؟ تلك الفطنة يتقاسمها تحديداً مع شعبنا، ومن هنا، وعلى وجه الخصوص، هو قوميّ. شعراء الدول الأوروبية الأخرى، عندما كانوا يختارون أبطالهم خارج حدود أمتهم، كانوا يلبسونهم قناع أهل بلدهم، ويسيطرون عليهم بطريقتهم. فلنر أيضاً "شكسبير". فشخصياته الإيطالية هي شخصيات إنجليزية بشكل ساذج تمامًا. بوشكين من بين كل شعراء العالم، الوحيد الذي ولج نفس البشر من كل الجنسيات. اقرؤوا "دون خوان" وسوف ترون أنه دون توقيع بوشكين فقد تقسم أنك لن ترى عملاً لكاتب إسباني.  
فلنتناول في موضع آخر شعراً أجنبياً يبدأ بهذا البيت:
ذات مرة، وأنا تائه في وادٍ بري...
سوف تقول لي، هذا استنساخ حرفي- تقريبًا- من ثلاث صفحات من كتاب غريب كُتب في شكل نثري متزمت ديني إنجليزي. لكن ليس سوى استنساخ؟ من خلال الموسيقى الحزينة والحماسية لهذه الأبيات تمر الروح ذات النزعة البروتستانتية الشمالية، في آن متبلدة، صوفية، كئيبة، وجموحة. مع بوشكين تشهد كل هذا التاريخ الإنساني، ليس فقط وكأن لديك سلسلة من اللوحات أمام عينيك، ولكن أيضاً وبنفس الطريقة التي إذا شرعت الأحداث في الانبعاث من جديد؛ يبدو لك أنك مررت أمام صفوف من المتحمسين، وأنشدت معهم ترنيمتهم، بكيت معهم في جيشانهم الصوفيّ، آمنت معهم بكل ما آمنوا به.
ثم يمنحنا بوشكين عدة مقاطع تحتوي على كل الروح العفية للقرآن الكريم. من جهة أخرى، العالم القديم يولد من جديد مع فجر التاريخ المصري القديم، الآلهة الأرضيون الذين يرشدون شعوبهم ومؤخراً، هُجروا، فقدوا عقلهم نتيجة عزلتهم.
استطاع بوشكين بشكل بديع أن يتلبس بداخله روح كل الشعوب. إنها موهبة خاصة به، ذلك غير موجود سوى عنده، كذلك أيضاً هذه الموهبة النبوية التي جعلته يكشف تطور جنسنا. مجرد أن أصبح شاعرًا قوميًّا بشكل كامل، أدرك القوة التي بداخلنا واستشعر أي المصائر الكبيرة التي تستطيع أن تخدم هذه القوة.. هنالك تكمن نبوته.
ماذا يعني لنا إصلاح "بيير" الأكبر؟ ألم يشتمل سوى على إدخال الملابس الأوروبية عندنا، العلم والاختراعات الأوروبية؟ فلنفكر في ذلك. ربما لم يشرع "بيير لو جران" بذلك، بداية، إلا من خلال هدف نفعي؛ بل خضع مؤخرًا بكل تأكيد لعاطفة غامضة شدته لإعداد مستقبل عظيم لروسيا. الشعب الروسي نفسه لم ير في البداية سوى تقدم مادي ونفعي، لكنه لم يتأخر في فهم أن المجهود الذي كان يجعله ينجز كان يجب أن يقوده بعيداً وعالياً. سرعان ما ارتقينا إلى مستوى مفهوم التوحد الإنساني العالمي. نعم، مصير روسيا هو مصير عموم أوروبا والعالم. أن تصبح روسيًّا حقًّا ربما لا يعنى سوى أن تكون أخًا لكل البشر، الإنسان العالمي؛ إذ أستطيع أن أعبر عن نفسي هكذا. هذا الخلاف بين النزعة المحبة للسلافية والنزعة الغربية ليس سوى نتيجة لتفاهم هائل. فالروسي الحقيقي يهتم بالمصائر الأوروبية، بمصائر كل الجنس الآري العظيم كما يهتم بالمصائر الروسية. إن أردتم التعمق في تاريخنا منذ إصلاح بطرس الأكبر، ستجدون ذلك ليس مجرد حلم شخصي لي، سوف تتحققون من رغبتنا في الاتحاد مع كل الأجناس الأوروبية من خلال طبيعة علاقتنا معهم، من خلال الطابع السياسي لدولتنا. ماذا فعلت روسيا خلال قرنين، إن لم تكن خدمت أوروبا أيضًا أكثر منها نفسها؟ ولا يمكن أن يكون ذلك نتيجة جهل رجال سياستنا. فالشعوب الأوروبية لا تعرف إلى أي درجة هي غالية علينا. نعم، سوف يضع كل الروس مستقبلياً في الاعتبار أن يظهروا روسيا الحقيقية وذلك بالسعي إلى أرض مصالحة حقيقية بخصوص كل التناقضات الأوروبية؛ وسوف توفر الروح الروسية ذلك، فالروح الروسية الموحدة عالمياً هي القادرة على أن تستوعب من خلال محبة كل الشعوب، إخوتنا، وتنطق في النهاية بالكلمات التي سيخرج منها اتحاد كل البشر، طبقا لإنجيل المسيح! لا أعرف هل يبدو الكثير من أقوالي نابعاً من مبالغات وخيالات. فليكن، لكني غير نادم على قولها. كان لابد أن تقال، خاصة في اللحظة التي نكرم فيها رجل العبقرية الروسية العظيم، ذلك الذي استطاع أن يُخرج بأفضل ما يكون الأفكارَ التي أُلهم بها. نعم، سيمنحنا التلفظ بكلام جديد. هل سيقال من أجل المجد الاقتصادي أم مجد السيف أم مجد العلم؟ لا، سوف يقال فقط لتكريس أخوة كل البشر في النهاية. أجد دليلاً لذلك في عبقرية بوشكين. أن تكون أرضنا فقيرة، هذا ممكن، لكن، «السيد المسيح مر عليها بهيئته المتواضعة مباركاً إياها». ألم يولد السيد المسيح في بيت؟ ومجدنا هو القدرة على تأكيد أن روح بوشكين قد تناولت القربان مع كل البشر. لو عاش بوشكين طويلاً، لأوضح لأوروبا كل ما نحاول إيضاحه؛ كان سيكشف نزوعنا تجاه إخوتنا الأوروبيين، الذين كانوا سيتبصروننا بقليل من الربية. ولو مات بوشكين مبكرًا، لما كان بيننا ثمة منازعات ولا سوء تفاهم. قرّر الرب شيئاً آخر؛ مات بوشكين في ذروة تفتح موهبته وحمل إلى قبره حل أعظم مشكلة. وكل ما يسعنا أن نفعله هو محاولة حلّ ذلك.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق